الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            معلومات الكتاب

            ظاهرة التطرف والعنف (من مواجهة الآثار إلى معالجة الأسباب) [الجزء الأول]

            نخبة من الباحثين

            السبب الثاني: التربية الأسرية:

            العنف ليس غريزة فطرية، فلا يوجد شخص عنيف أو عدواني بالفطرة، بل هو سلوك مكتسب يتعلمه الفرد خلال مراحل العمر المختلفة من المعايير والاتجاهات الاجتماعية المكتسبة [1] .

            ومادامت الأسرة هي العامل الأول في عملية التنشئة الاجتماعية للأفراد، فإن أسس التربية العنيفة، التي ينشأ عليها الفرد في أسرته هي التي تولد لديه العنف. فالأطفال العنيفين إما أن يكونوا ضحايا مباشرين لصور العنف المختلفة في بيئتهم الأسرية، أو يكونوا ضحايا تربية خاطئة تتبنى العنف طريقة في التواصل مع الآخرين، الأمر الذي يعزز السلوكات العنيفة لدى الأطفال فيتحولون بذلك من موضوع للعنف إلى ممارسين له. مثال [ ص: 147 ] ذلك ما يرد على الأمهات من قبل الآباء من سوء معاملة، فينشأ الأبناء الذكور على عدم احترام المرأة وتقديرها، والتعامل بعنف معها.

            وأبرز ما يميز التربية الأسرية القائمة على العنف اعتمادها في غرس مفاهيم وقيم اجتماعية على سلسلة من العقوبات الجسدية كالضرب، والمعنـوية كالسـخرية والاستـهزاء والشتـم والتعيير. ولهذا الأسلوب العنيف من الـتربية انعـكاسات سلبية على شخصية الطفل ونفسيته، لأنه يستهدف بالأساس كرامته وشعوره الاعتباري، الأمر الذي يمنعه من تحقيق أي هدف تربوي إيجابي، عدا تضخيم السلطة الوالدية على حساب حاجات الطفل التربوية.

            إن الدراسة التحليلية لظاهرة العنف الأسري تؤكد أن اعتماد العنف وسيلة تربوية في بعض الأوساط الأسرية يعود إلى أسباب نفسية واجتماعية وثقافية متنوعة، ولا شك أن معرفتها سيسهم بقسط وفير في توصيف العلاج لهذه المشكلة. ومن أهم هذه الأسباب:

            1- الجهل التربوي للوالدين بتأثير أسلوب العنف على نفسية الطفل وشخصيته.

            2- إعادة إنتاج أو تكرار الوالدين للأسلوب التربوي الذي مورس معهم، فكثيرا ما يكون أسلوب الوالدين العنيف انعكاسا لتربية التسلط التي عاشوها في الصغر. [ ص: 148 ]

            3- الاعتقاد بأن استخدام العنف في التربية هو الأسلوب الأسهل والأنجع في فرض النظام وتكريس الطاعة.

            4- الافتقار إلى الوعي التربوي بطرق التعامل مع الأطفال وفقا للمنهجية التربوية الصحيحة.

            وأمام هذه الأسباب المتنوعة والمتداخلة يجب التأكيد على أن العنف ليس أسلوبا تربويا، لاعتبارات أهمها:

            أولا: إن العقـوبة وإن كانت تساعد على زيادة الانضباط والطاعة، فإن الأمر لا يتعدى كونه عملية تخـدير مؤقت وليس حلا جذريا، ذلك لأن الإفراط في استخدام السلطة الوالدية تجعل الطفل إنسانا يفتقر إلى الرقابة الـذاتية ويخشى العقـاب العـاجـل، فهو يرهب السلطة طالما هي حاضرة، ولا يأبه بها كثيرا إذا غابت [2] .

            ثانيا: إن الحالات، التي يتعرض فيها الطفل للعنف التربوي لاسيما الضرب تكون ناجمة عن انفعال ينتاب أحد الوالدين ورغبة ملحة في التنفيس عن الغضب وضغوطات الحياة، فهي ليست نتاجا لتقديرات موزونة تستهدف تحقيق هدف تربوي معين. [ ص: 149 ]

            ثالثا: إن العنف التربوي يسبب للطفل إعاقة نفسية وفكرية.

            أما الإعاقة النفسية فتتمثل في تطويع الطفل للخضوع لكل من يمارس عليه عنفا جسديا أو إهـانة معنوية أو إرهـابا نفسيا.كما يجعل من عنصر السلبية وما تتضمنه من عجز وقصور وانطوائية وعدم تحمل للمسؤولية أهم معلم من معالم شخصيته. وقد ينتج العنف التربوي على المستوى النفسي أيضا نموذجا عكسيا يتميز بالروح التسلطية والانتقامية، ذلك أن القهر التربوي وما يشمله من سخرية وازدراء واستهزاء بالشخص تثير في الفرد روح الحقد والكراهية والنـزوع إلى استخدام القوة للرد ورفع القهر. وقد أكدت الكثير من الدراسات أن الأطفال الذين يعاملون بوحشية وعنف في طفولتهم يسعون للانتقام في الكبر بارتكاب جرائم العنف، كما تنشأ عندهم مشاعر التمرد على السلطة الوالدية وعلى ممثلي أي سلطة بصفة عامة [3] .

            ولقد جمع ابن خلدون هذه الآثار المدمرة للعنف التربوي في مقالة حكيمة في فصل: "في أن الشدة على المتعلمين مضرة بـهم" قال فيها: "من كان مرباه بالعسف والقهر، من المتعلمين أو الخدم، غلب عليه القهر، [ ص: 150 ] وضاقت نفسه، وذهب نشاطها، وحمل على الكذب والخبث، خوفا من انبساط الأيدي بالقهر عليه، وعلمه المكر والخديعة لذلك، وصارت له هذه عادة وخلقا، وفسدت معاني الإنسانية التي له من حيث الاجتماع والتمدن، وهـي الحمية والدفـاع عن نفسـه ومنـزله، وصـار عيالا على غيره في ذلك، بل وكسلت النفس عن اكتساب الفضائل والخلق الجميل، فانقبضت عن غايتها ومدى إنسانيتها، فارتكس وعاد في أسفل السافلين" [4] .

            أما الإعـاقـة الفـكرية فتتمثل في تعـطيل طـاقـات الإبداع والابتـكار في شخصية الطفل. فقد أثبتت الدراسات الاجتماعية التربوية أن النجاح والتفوق الدراسي كانا على الدوام من نصيب الأطفال الذين ينتمون إلى أوساط اجتماعية تتميز بالحوار واحترام الرأي الآخر، مؤكدة أن التربية المتسلطة من شأنها تفريغ الإنسان من محتواه، واستلاب جوهره الإنساني، وقتل طاقة التفكير المبدع لديه [5] .

            وأمام هذا التشويه الفظيع الذي يحدثه العنف التربوي في الشخصية الإنسانية يجب التأكيد على أن مبدأ العقـاب في التربية لم ينـكره الفكر التربوي الإسلامي ولا نظريات علم النفس الحـديث، ولكن أحاطوه بسياج من الشروط والقيود، ولم يجعلوه الوسيلة الأولى والوحيدة في تعزيز السلوكات [ ص: 151 ] الإيجابية وتصحيح السلوكات السلبية، بل جعلوه تاليا لأسلوب الثواب من مدح وتشجيع وتحفيز.

            يقول أبو حامد الغزالي عن منهج تأديب الصغار: "... ثم مهما ظهر من الصبي من خلق جميل وفعل محمود فينبغي أن يكرم عليه، ويجازى عليه بما يفرح به ويمدح بين أظهر الناس، فإن خالف ذلك في بعض الأحوال مرة واحدة، فينبغي أن يتغافل عنه، ولا يهتـك سـره، ولا يكاشفه، ولا يظهر له أنه يتصور أن يتجـاسر أحد على مثلـه، ولا سيما إذا سـتره الصـبي واجتهد في إخفائه، فإن إظهـار ذلك عليه ربما يفيده جسـارة حتى لا يبالي بالمكاشفة، فعند ذلك إن عاد ثانية فينبغي أن يعاقب سرا ويعظم الأمر فيه، ويقال له: إياك أن تعود بعد ذلك لمثل هذا، وأن يطلع عليك في مثل هذا فتفضح بين الناس" [6] .

            ومع إقرار الغزالي بمبدأ العقوبة كوسيلة متأخرة للعلاج فإنه يحذر من تكرارها؛ لأن ذلك يفقدها سمة الردع بسبب تعود الطفل عليها، حيث يقول: "ولا تكثر القول عليه بالعتاب في كل حين، فإنه يهون عليه سماع الملامة، وركوب القبائح، ويسقط وقع الكلام من قلبه" [7] . [ ص: 152 ]

            التالي السابق


            الخدمات العلمية