الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            معلومات الكتاب

            ظاهرة التطرف والعنف (من مواجهة الآثار إلى معالجة الأسباب) [الجزء الأول]

            نخبة من الباحثين

            - العنف في ضوء مشكلات التنمية السياسية:

            إن ظاهرة العنف لها أبعاد مختلفة، كما أسلفنا؛ بعد اقتصادي، وبعد ثقافي، وبعد اجتماعي، وبعد سياسي ... الخ. وهي أبعاد مرتبطة ومتحدة، ويستدعي المنهج السليم تناولها منفصلة.

            انفجار العنف في مجتمع ما وإلحاق الأذى بالأبرياء وإتلاف البشر والممتـلكات، يعني وجـود حـالة من الاختلال والتناقض الكامن، وهو مؤشر أن هـذا المجتمع أخفـق في أدائـه على وجـه من الوجـوه، اقتصاديا أو سيـاسيا، ولعـل البـعـد السياسي من أهم أسباب العنف إن لم يكن أهمها على الإطلاق.

            إن الإنسـان يوجه قسما كبيرا من نشـاطه نحو إشـباع حاجاته المادية، لكنه لا يكتفي بمتطلبات الرفاهية المادية وحدها، بل هناك حاجته إلى الاعتراف والاحترام أيضا. ويعتقد كل إنسان أنه مستحق لهذا الاحترام، لأنه يملك كرامة وقيمة ذاتية. وكلما ارتفع مسـتوى الإنسان في معيشته ومساواته في الحقوق تهيأت متطلبات أكثر للاعـتراف. لقد ربط القرآن الكريم بين تكريم الإنسان ورزقه من الطيبات، قال تعالـى: ( ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا ) (الإسراء:70). [ ص: 80 ]

            ويدخل الناس في صراع مميت إذا ما انتقصت كرامتهم وأهين اعتبارهم، ولذلك يرى "البعض" أن الفعل الإنساني الأول هو الصراع من أجل الاعتراف [1] .

            إن عـلاقة السـيـاسـة والعنف عـلاقـة السبـب والنتيـجـة، عـلاقـة العـلـة والمعلول. فالإكراه يبدأ عنـدما تفشـل السـيـاسـة، والعنف هو المقابل للاقتناع.

            والمجتـمع السـيـاسي الراشـد يـكون قـادرا عـلى تحـويل الحوار الطبيـعي الموجود في الشارع وفي كل مـكان إلى حـوار مؤسسي رسمي يعبر عن نفسـه في شـكل منظمـات سيـاسية (أحزاب، جمعيات، برلمان، مؤتمرات ... إلخ).

            وتوصف المجتمعات بالتحضر عندما تكون قادرة على الحد من أسباب العنف، ولا سيما العنف الجسدي. وقد شهد العالم تحولات مهمة بهذا الصدد عندما أصبح المركز السياسي في الدولة الحديثة قادرا على استدامة الاحتكار الكامل لوظائف العنف، فيما كان الشائع في الدولة ما قبل الحديثة، اللصوصية وقطع الطريق والعداوات الدموية، ولم يكن المركز يمتلك دائما وسيـلة لفرض الطاعة على رعاياه في القطاعات النائية من الأطراف إلا عن طريق استعراض القوة. وعلى الرغم من أن الكثير من نظم الحكم [ ص: 81 ] السياسية قبل الحديثة اعتادت إظهار طابعها الاستبدادي المتعطش للدم، فإن مستوى سلطانها الموضوعي في العلاقات الاجتماعية اليومية كان منخفضا نسبيا. [2]

            ومع ذلك فإنه يجب الإقرار بأن التقدم في آليات السيطرة والضبط يقابله اليوم تقدم مماثل في آليات العنف والتدمير، وكما يقول أحد المراقبين: فإن القرن الحادي والعشرين معرض لأن تسحقه التقنية والفوضى، فقد أصبـح التقـدم التقني يتيح لحفنة من (الإرهابيين) أن يفعلوا ما كان يحتاج في السابق إلى جيوش جرارة.

            ثمة ظروف مختلفة فرضت العنف بشكل لافت في المرحلة التي أعقبت زوال الاستعمار، ومن ذلك أن الدول المستقلة واجهت أزمات التنمية السياسية دفعة واحدة. ومنذ أن آلت مقاليد الأمور إلى الحكومات الوطنية استعرت أزمة الشرعية بخروج بعض الجماعات والأفراد عن القانون وعدم الإذعان للنظام السياسي والخضوع له طواعية. وقد تكون بعض النظم حققت مشروعية بإقامة الدستور والقوانين، ولكنها بقيت ناقصة الشرعية لعدم خضوع الكافة لسلطانها. كما برزت أزمة التكامل القومي (الوحدة الوطنية)، وتجذرت هذه الأزمة بسبب ضعـف الـولاء العـام للنـظـام أو الـدولـة، ولحـدوث انقسـامات عميقـة عرقيـة أو جهوية أو دينية، وربما صار ولاء الأفراد لقبائلهم [ ص: 82 ] أو أحزابهم السياسية أقوى من ولائهم للدولة. وإذا ما تعارضت مصلحة شخصيـة أو مصلحة حزبية مع المصالح العليا الوطنية، آثروا ولاءهم القبلي أو الفئوي أو الحزبي.

            وبرزت أيضا أزمة الحرية وأزمة المشاركة السياسية وأزمة الاتصال والتغلغل، وبتفـاقم هـذه الأزمات جميعا انفتحت الساحة السياسية على دورات لا حد لها من العنف السياسي.

            وقد رأينا لأزمة الشرعية تمثلات في الصراع بين الفكرة العلمانية والفكرة الإسلامية. إذ لم يكن التعايش ممكنـا بين مشروعين: علماني وآخر إسلامي، على أساس أن وصول أحدهما إلى النفوذ هو نفي للآخر.

            قدم الإسلاميون مشـروعهم عـلى أنه المشـروع الحضـاري الأصـيـل في مواجهة الاغتراب، والاستقلال في مواجهة الهيمنة الأجنبية، والشورى وحكم الأمة في مواجهة الاستبداد. وقد وصم أصحاب هذا المشروع بأنهم أعداء الديمقراطية والحرية، وأنهم لا يحملون ثقافة سلام بل هم دعاة عنف وفتنة. وعمدت بعض الدول إلى محاصرة التيار الديني وقمعه ومنعه من العمل السياسي القانوني.

            ولعل تحليلا أكثر دقة، يظهر في الحقيقة أن الانقسامات الحادة على أساس ديني أو عرقي أو جهوي، هي أعراض لأمراض في صميم النظم السياسية، ومن الطبيعي أن لا يتحقق الاستقرار المنشود بمحض السيطرة [ ص: 83 ] الإدارية والأمنية، بل يتطلب الأمر تحقيق التنمية السياسية بإتاحة الحريات وتثبيت الشرعية والمشاركة السياسية والاتصال والاعتراف الشامل بصون حقوق الإنسان وكرامته.

            وتوصف السياسة بأنها حوار واسـع بين فعاليات المجتمع، وبالحوار يتجاوز المجتمع تناقضاته؛ والمجتمع الذي يصـاب بتناقضـات داخلية خطيرة معرض للانهيار. ومما يعرض المجتمع لهذا المصير أنه ينكص عن إعطاء أفراده اعترافا بحقوقهم وكرامتهم الإنسانية.

            إن السياسة الجيدة تسعى إلى الوقاية من التناقضات والانشقاقات المحتملة وتجفيف مصادر القلق الاجتماعي، بالتعرف على المسببات، وتوقع ما يمكن أن ينجم من النـزاعات والتوترات. ذلك أن العنف ليس نتيجة مباشرة للواقع الموضوعي بل هو انعكاس هذا الواقع في النفوس، والإدراك غير الصحيـح لذلك الواقـع، وما يترتب عنه من وجود الشعور بالغبن والعداء والإحباط.

            وتحـتاج البلاد إلى أسس للتنظيم حذرا من الفوضى، فمن حق الدولـة أن تمـارس القوة لإبطال العنف المضاد وأن تبسط هيبتها، ومع ذلك، فإنه إذا وقـع نزاع، فـلا ينبغـي المبـادرة إلى الاستـخـدام الفـارط للقـوة، ذلك أن العنف حـين يقع تكون مسـؤوليته مشـتـركة، إذ يعني أن الطرفين أخفقا في خلق التفاهم والتعاطف المتبادل وفهم وجهة النظر الأخرى. ومن المؤكد [ ص: 84 ] أن التفـاهم الصحيـح مـع (الآخر) من شـأنه أن يهيـئ قدرة أكبر لفهم (الذات).

            وقد يقال: إنه مهما أعطيت من فرص للمشاركة السياسية وفرص الحوار، تظل هنالك فئة من الناس في كل مجتمع لديهم قابلية للعنف والاندماج فيه بما ينطوون عليه من تعصب يعميهم عن التفكير السليم. العنف قبل أن يتجسد في عمل مادي تدميري أو تفجيري هو فكرة في عقل إنسان. والتعامل المناسب هو مواجهة الفكرة بالفكرة، لا استئصال الأجساد بدافع الانتقام.

            إن من يفكر بالاستـئصال والقمـع لا يكون مختلفا عن دعاة العنف والتطرف، لأن الدولة من واجـبها أن تمارس القوة المنظمة بالقانون، الموجهة بأهداف وغايات.

            ولا شك أن مواجهة العنف بالعنف تزيد الاستقطاب وردود الفعل المتوالية وتهدد بنتائج لا تحمد عواقبها.. الصراع بين القضية ونقيضها يؤدي إلى إزالة القضية ونشوء قضايا أكبر منها.

            وفي حالات الصراع بالعنف، توجد صعوبة كبيرة في الانتقال من مرحلة الاقتتال إلى الحوار. بل إن إقناع الأطراف للجلوس إلى طاولة المفاوضات تعد من أصعب المراحل. ويرى بعضهم أن مواجهة الخصم في الحوار والتفاوض أشد صعوبة من مواجهته في ميدان القتال. يقول الرئيس البوسني [ ص: 85 ] الأسبق علي "عزت بيجوفيتش"، رحمه الله، في ذلك أنه مارس كثيرا من الأعمال في حياته، اشتغل حطابا وحمل الطوب والحديد، واشتغل في المحاكم، ولكنه وجد العمل التفاوضي أصعب الأعمال على الإطلاق. [3]

            إذا كان الأمر كذلك في الحروب شبه النظامية فإن (حروب) الإرهاب أصعب بكثير لأنك تحارب أشباحا، ولا يعرف على وجه الدقة قيادات سياسيـة أو ميدانيـة تستـطيـع أن تتحاور معهم. وتكون الأولوية عندئذ دفع الصـائل وحماية المجتمع، حتى إذا جنحوا للسلم وأمكن الجلوس معهم في حوار مباشر أو غير مباشر فهو السبيل الأوفق للحل.

            التالي السابق


            الخدمات العلمية