الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            معلومات الكتاب

            ظاهرة التطرف والعنف (من مواجهة الآثار إلى معالجة الأسباب) [الجزء الأول]

            نخبة من الباحثين

            - نحو موقف إسلامي جماعي من العنف:

            من الممكن تطوير موقف إسلامي جماعي من العنف. ليس المقصود وضع مفهوم أو تصور فما أكثر ما كتب في ذلك من الآراء والأفكار. المقصود هو منهجية للعمل السياسي والاجتماعي تراعي ظروف العصر وواقع المسلمين.

            ونعلم قوة الأسس المنهجية والفكرية للسلام في الإسلام، وفهم المسلم لمشكلة العنف لا يقف عند الإدراك أن الإنسان متهم بالإفساد وسفك الدماء، بل يتجاوز ذلك إلى العمل لما يدفع عن الإنسان هذا الاتهام.

            في قول الملائكة: ( أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ) (البقرة:30)، دليـل على أنـهم علمـوا أن مـراد الله مـن خـلق الأرض هـو صـلاحها وانتظـام أمـرها، وإلا لما كان الاستفهام المشوب بالتعجب - كما يقول مفسرو القرآن الكريم - ويرى أحد مفكرينا المحدثين أن المغزى من ذكر تهمة الإفساد وسفك الدماء هو أن الله تعالى يعلم في هذا الإنسان ما لا يعلمه هؤلاء المتهمون.

            يقول الشيخ جودت سعيد: "إنهم يبخعون الموضوع ويضيعون المغزى والهدف من الخبر، حينما يتناولون الجانب الذي لا يتصل بحل المشكلة التي أراد الله أن يسوق الخبر من أجله" [1] . [ ص: 90 ]

            لقد أثبتت الآيات الكريمة بعد ذلك أن الإنسان تميز عن سائر المخلوقات بميزة التعلم والتفكير الذي يتجاوز بها مشكلاته.

            إن المسلمين العاملين في الشأن العام محتاجون إلى اتخاذ موقف جماعي من العنف، ذلك أن العمل السياسي بحكم الطبيعة التنافسية، تتعرض مسارات الناس فيه دائما إلى الانحراف عن غاياتها، ومن الممكن أن (الإسلاميين) قد ساهموا في تدعيم الانقسامات في المجتمع والتورط في هذا الانحراف. وقد حاول خصومهم أن يثبتوا أنهم هم القوى الرئيسية التي مارست العنف. [2] وذهب هؤلاء الخصوم إلى دمغ المسلمين عموما بالعنف والزعم بأنهم لا يملكون ثقافة سلام. ونحن نعلم أن طائفة من المسلمين قد تورطت في العنف، ولكن التعميم بوجود ثقافة عنفية لدى المسـلمين هو مجرد اختزال مضلل. والصحيح أن المسلمين وجدوا أنفسهم موضوعا للعنف في ظل نظم لم يشاركوا في صنعها بعد جلاء الاستعمار من دولهم.

            ومن نافلة القول: إن العنف الذي وقع على المسلمين أضعاف ما وقع على غيرهم. وقد حصل قطع للطريق أمامهم بوسائل عنيفة، حتى بعد أن تحققت لهم الشرعية عن طريق الديمقراطية أو الكفاح السياسي، والشواهد على ذلك ماثلة. [ ص: 91 ]

            ولمن يريد أن ينظر نظرة منصفـة في الخبرة السياسـية للإسـلاميين، فإن عليه أن يفرق بين صـورتين في السياسـة؛ هناك السياسة الشرعية وهي جعـل الناس أقرب إلى الصلاح وأبعد عن الفساد، إنها سياسة الحياة التي تبني العلاقات الإيجابية وتؤلف بين المختلفين، وتحرك الناس نحو مصالحهم، وتناقش الأمور فيها على أساس الحوار الموضوعي.

            وهنـاك أيضا سياسة التنازع والمناورات، تجعل كل أمر في المجتمع مشكلة خلافية وموضوعا للصراع، حتى الدين نفسه الذي أنزله الله تعالى حـكما بين المختـلفين، يتخـذ في هـذه الحالة مادة للخلاف. هناك بطبيعة الحال مسلمون يمارسون السياسة بالمنهج الأول وآخرون يتخذون سبيـل العنف والصـدام، وهـؤلاء وإن كانوا مجبـولين على ذلك فمن الممكن إصلاحهم.

            بعض الإسلاميين فكروا بمنهج خاطئ عندما اعتقدوا أن العنف هو الطريق الوحيد للتغيير، ووقـعوا في الخطأ الذي وقعت فيه طوائف أخرى. لقد أضحى العنف عقيدة مطلقة للفوضويين في ثورات القرن الثامن عشر في أوروبا، ونظر الشيوعيون والفاشيون إلى أن العنف وحده هو وسيلة الثورة (العنف الثوري) وأنه هو القوة المبدعة في التاريخ، وعلى ذلك انبنى فكر اليسار الجديد. ومن مفارقات القدر أن الأنظمـة التي قامت على أساس العنف وحده، تحللت وانهارت بمنطق العنف وحده. [ ص: 92 ]

            علينا أن نعتبر بمصـير الشيـوعية والنازية، عندما تظهر فينا "فئات ترفع راية الدين الحنيف، وشعارات تطبيق الشريعة السمحة، لكن هذه الفئات لا تحتكم في مشكلاتها إلى شرع الله القويم، فليس أهون عندها من إراقة الدماء المعصومة، وانتهاك الحرمات بزعم إنكار المنكر" [3] .

            ثمة أجيال من الشباب نشأت في جماعات قليلة العلم والفهم الشرعي، ولم تكن لديهم من خبرات الحياة سوى اسـتخدام السـلاح، وكلما قابلتهم مشـكلة فزعوا إلى سلاحهم يلتمسـون الحل في أشفار بنادقهم. إنـهم كثيرو الشبـه بالخوارج الذين لـم يعـرف عنـهم كذلك سـبق في العلم أو الفقه، بل كانوا يسخرون ممن يضيع الوقت في الخطب والجـدال، وهـذا شاعـرهم الصـلت بن مـرة يصـف الخطباء بالضلال حين يقول:


            ما كان أغنى رجالا ضل سعيهم عن الجدال وأغنـاهم عن الخطب     إني لأهونكم في الأرض مضطربا
            مالي سوى فرسي والرمح من نشب [ ص: 93 ]



            وهناك في بعض هذه الجماعات، من عمل على تحويل فائض الطاقة لدى الشباب إلى عنف، وتوجيه مثالياتهم الأخلاقية إلى تطرف. وهناك للأسف قادة سياسيون عمدوا إلى استثمار طاقة الشباب لتحقيق مأرب سياسي يعود بفائدة شخصية لهذا القائد السياسي أو ذاك. ولعل كاتب هذه السطور عايش بحـكم مشـاركة سـابقة في العمـل الطلابي والنضـالي في بلده، كيف أن بعض الزعماء كانوا لا يجدون متنفسـا إلا من خلال تنظيماتهم الشبابية والطلابية، ولم يكونوا يتورعون أحيانا من تعريض هؤلاء الشباب للقتل حتى تتأجج المشاعر المحفزة للعنف.

            إن عمر الشباب فترة عبور مهمة في حياة الإنسان، ومن خصائص الشباب تعلقه بالمثل ونزوعه إلى إثبات الذات وتطلعه إلى التغيير، والواجب تعهـده بالرعاية والتـربية، وإشـباع حاجاته الطبيعية في المشاركة الإيجابية وتطلعاته الأخلاقية.

            من الممـكن أن يكون في كل مجتمع دواع لثورة الشباب، ولكن الشباب لا يصل إلى حد العنـف إلا إذا أثـاره مهيجـون متحمسـون للتغيير بالعنف.

            هناك إذن اختلاف بين مسلمين انتهجوا العنف وهؤلاء هم القلة، وبين التيار العام للمسلمين الذي التزم طريق السلام، بما فيه حركات التغيير الإسلامي التي امتلكت مصيرها وتوسلت إلى أهدافها بالخطة المرسومة [ ص: 94 ] والخـطى المحسـوبة، فحقـقت أهدافها، أو كادت أن تصل إلى أهدافها، وإن كان بعضها قد قطع أمامها الطريق، فأركست في دورات متجددة من دورات العنف.

            عندما ندعو إلى موقف جماعي من ظاهرة العنف في العالم الإسلامي، نريد التزاما ينسق سلوك الأفراد والجماعات - حسب مخطط ما - يجعل العنف شيئا منبوذا. والموقف الجماعي استعداد وموقف مشترك، وهو حالة ذهنية متشابهة لدى العدد الأغلب من الناس.

            والموقف الجماعي ليس بالضرورة حالة عامة، ولكنه شيء ثابت ومطرد، غير عارض. ولنضرب مثالا على ذلك النفور ممن يقارب اليوم عمليات خطف الطائرات والاغتيال السياسي، فهي أعمال إرهابية مستهجنة، وكذلك أعمال التفجيرات وقتل المدنيين. وإذا ما نظرنا إلى الخلف، إلى الستينيات والسبعينيات من القرن العشـرين، وجـدنا الموقـف العام مـن تلك الأعمـال مـوقفا مختـلفا، إذ كان الكثير من الناس يرونها أعمالا بطولية لا غبار عليها.

            هنـاك مثـالان آخـران لـدولتـين إحـداهما في وسـط إفريقيا والأخرى من الـدول العربية، شهدتا حروبا أهلية فترة طويلة من الزمن، وتأسس فيهما بسبب الفظائع والأهوال مـوقف جمـاعي معـارض [ ص: 95 ] للحـرب، فعندما تكررت وضعية الحرب الأهلية من جديد، وتعززت أسبابـها، لم تقع الحرب.

            لقد توصلت هاتان الدولتان إلى موقف جماعي ضد العنف بعد أن قدمتا تضحيات كبيرة في الأنفس والثمرات، وأنفقتا سنوات طويلة من الفوضى والعذاب والموت والمسغبة، ومن المؤسف أن جبهات العنف المفتوحة الآن جلها أو كلها داخل نطاق العالم الإسلامي.

            إن السـلام الاجتمـاعي لا يقتـصر على وجـود الفـكرة فحسب، بل يتعـدى إلى تحـويل الفـكرة إلى إيمـان يوجـه السلوك الفردي والمجتمـعي، يقول الله تعالى: ( يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة ) (البقرة:208)، ويقول تعالى: ( وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه وقالوا لنا أعمالنا ولكم أعمالكم سلام عليكم لا نبتغي الجاهلين ) (القصص:55). [ ص: 96 ]

            التالي السابق


            الخدمات العلمية