الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            معلومات الكتاب

            ظاهرة التطرف والعنف (من مواجهة الآثار إلى معالجة الأسباب) [الجزء الأول]

            نخبة من الباحثين

            - العنف العاجز وحوادث العنف ذات المحتوى التاريخي:

            العنف موجود في كل زمان ومكان، وهو ظاهرة عالمية وليس نمطـا ثقافيا خاصا بمجتمع أو فئة من البشر، ولا نرى أن مجتمعا يمكنه تحاشي العنف بالكامل، ولكنه يستطيـع تفـادي الظروف التي تـؤدي إليه أو الحد منه، أو التحكم - نوعا ما - في أشكاله ومظاهره.

            إن المجتمعات - مثل أي كائن حي - تتعرض لعمليات تفاعل وتغيير، فهناك تغييرات ضرورية وطبيعية للحفـاظ على الاستـقرار الاجتماعي، وهي ما تعرف بالحركات الدورية المرحلية والتغييرات ذات الصلة بتمايز البنية الاجتماعية. وهناك التقلبات الناجمة عن الحاجة إلى التوازن الاجتماعي؛ قد تكون محدودة كالاحتجاجات السلمية والتظاهرات، أو غير محدودة مثل التوترات والثورات والطفرات الاجتماعية العنيفة.

            ولا تختـلف هـذه الصورة كثيرا عما يوجد في الطبيعة. ففي الطبيعة تترابط الأجسام من خلال حركة الذرات والجزيئات داخلها لتتولد الطاقة. وقد أثبتت البحـوث العلمية الحـديثة أن هذه الجزيئات تتحرك حركة متـرابطة منتـظمة لا تشوبها شائبة، ولكن هناك ما يسمى البالوعة الحرارية التي قد تستنـزف هذه الطاقة وتدمر هذا الترابط. ولا تختلف الصورة في المجتمعات البشرية عن ذلك كثيرا، فالمجتمعات المترابطة هي مجتمعات فعالة [ ص: 77 ] ومؤثرة، وعلى النقيض من ذلك فإن المجتمعات غير المترابطة هي مجتمعات غير فعالة وتسير على غير هدى من أمرها. [1]

            وبناء عليه لا بد من التمييز بين حـركات سيـاسية تستند إلى القـوة وبين حـركات العنف ذات الشبـه بـ (البالوعات الحرارية) تستنـزف طاقة المجتمع وحيويته.

            القـوة عمـلية تغيير هـادفة ذات محتوى تاريخي، والعنف استخدام للقـوة المادية أو التهـديد باستخـدامها دون أن يرتبط ذلك بخط سياسي ذي مصداقية، مجرد عمل عاجز.

            حتى في الرياضة، يقع التمييز بين القوة والعنف، فهناك اللعبة القوية وهناك اللعبة الخشنة!

            والمعيار الأهم للتمييز، هو وجود مقدرة وإرادة للتصرف وتوجيه الإمكانيات المتاحة في الاتجاه الصحيح. وعلى ذلك ففرق ما بين حركات التغيير السياسي التي استكملت شروطها ومقاصدها وتعاملت مع الواقع تعاملا راشدا، وبين ردود الفعل الهوجاء.

            العنف السياسي يتغذى على الأوهام بالقوة والوعي الزائف. وربما تهور أصحابه في نزاع دموي لمجرد ظنون تساورهم بأنهم يحققون الرغبة في الخلاص، فلا تلبث أن تطويهم شبكة معقدة من ردود الفعل والمواقف المتلاحقة فيسلمون أنفسهم للحوادث. [ ص: 78 ]

            وما أكثر الثورات الدينية التي لم تعـتـصم بالعصبـيـات القـوية في قتالها للحكومات الظالمة فأصابها ما أصابها، وذلك لأن أحوال الملوك والدول -كما يقول ابن خلدون - راسخـة قـوية لا يزحـزحها ولا يهـدم بناءها إلا المطالبة القوية التي من ورائها عصبية القبائل والعشائر: "ومن هذا الباب أحـوال الثوار القـائمين بتغيير المنكر من العامة والفقهاء فإن كثيرا من المنتحـلين للعـبادة وسـلوك طرق الـدين يذهـبون إلى القيام على أهل الجور من الأمراء داعـين إلى تغيير المنكر والنهي عنه والأمر بالمعروف رجاء في الثواب عليه من الله، فيكثر أتباعهم والمتلثـلثون بهم من الغوغاء والدهماء ويعرضون أنفسـهم في ذلك للمهـالك، أكثرهم يهـلكون في هـذا السبيل مأزورين غير مأجورين". [2]

            هـذا، ومن المشـهور في التفـكير الإسـلامي أن إزالة المنكر باليد تشـرع لمن يمـلك القدرة على التغيير، وبشرط أن لا يترتب على إزالة المنكر منكر أكبر منه.

            إن التهور إلى العنف مظهر ضعف لا مظهر قوة، ذلك أن القوي هو من يكون مسيطرا ومتحكما في قدراته، مع التزام بقواعد الحرب وأحكام القانون، وليست غاية الحرب المنظمة سحق العدو وإبادته بل إرباكه وتشتيت قواه إلى درجة تمنعه من القتال بكفاءة. [ ص: 79 ]

            التالي السابق


            الخدمات العلمية