الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            معلومات الكتاب

            ظاهرة التطرف والعنف (من مواجهة الآثار إلى معالجة الأسباب) [الجزء الأول]

            نخبة من الباحثين

            "مفهوم الجاهلية".. تصور خاطئ

            هناك منطلقـات "شرعية" ينطلـق منها التطرف، سواء المتعلقة بالعنف أو التكفير وما على ذلك. وفي مقدمة هذه المنطلقات ذاك التصور الخاطئ الذي يصف المجتمع الإسـلامي المعاصر والحياة الإسلامية المعاصرة بـ"الجاهلية"، ومطابقتها للجاهلية التي عاشها العرب قبل نزول الرسالة. ومن شأن هـذا الحكم أن يجري على المسلمين المعاصرين ما أجري على الكفار والمشـركين معاصري الوحي... فضلا عما يمكن أن يجري على غير المسلمين.

            ولعل أول من أطلق هذا الوصف هو الشهيد سيد قطب، رحمه الله، الـذي كان يرى أننا "اليـوم في جاهلية كالجـاهلية التي عاصـرها الإسـلام أو أظلم. كل ما حولنا جاهلية.. تصورات الناس وعقائدهم، عاداتهم وتقاليدهم، موارد ثقافتهم، فنونهم وآدابهم، شرائعهم وقوانينهم. حتى الكثير مما نحسبه ثقافة إسلامية، ومراجع إسلامية، وفلسفة إسلامية، وتفكيرا إسلاميا، هو كذلك من صنع الجاهلية!!

            لذلك لا تستقيم قيم الإسلام في نفوسنا، ولا يتضح تصور الإسلام في عقولنا، ولا ينشـأ فينا جـيل ضخـم من الناس من ذلك الطراز، الذي أنشـاه الإسلام أول مرة" [1] . [ ص: 113 ]

            إن وصف المجتمع والحياة بالجاهلية، على إطلاقه، له انعكاسات خطيرة على المنهج المستخدم في التغيير؛ ذلك أن تشخيص الواقع هو الذي يدلنا على المنهج الممكن اتباعه.

            إن الحكم بالجاهلية بإطلاق طريق سهل إلى التكفير والتطرف والعنف. ومعنى هذا "أن النـاس كلـهم عـلى ضـلال ما دامـوا لم يتبنوا ما أعتقده".

            لم يكن عبثا أن عرضنا جانبا من تاريخ الأمة الإسلامية في المقدمة، وإنما أردنا أن نبين التحولات الخطيرة التي عرضت لهـا، ونكشف عما ورثه المسلمون اليوم. ولعله من سوء الفقه للواقع أن نصف المجتمع الإسـلامي المعاصر بالراشدي، أو بالمجتمع الإسلامي الخالص. لكن، من الظلم أيضا أن نصفه بالجاهلية. ذلك أن الحياة الإسلامية بها بقايا الخير، والعقيدة الصالحة جذوة كامنة تتجلى في السلوك العام للمسلمين، وفي أخلاقهم وتضامنهم وتعاطفهم، وفي حبهم للخير، وفي غيرتهم على دينهم رغم عدم الوفاء بالتزاماتهم نحوه، وكذلك في خشيتهم من ربهم وتعظيمهم لنبيهم. "أفإن وجد من بين المسلمين، من حاكم طاغ ومتبرجات ومنافقين، من هم من أهل النار نحكم أن الأمة كلها جاهلية؟... ديننا وتاريخ إقامته، وحديث النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته، وسيرة الانتقال الأول على عهد التنـزيل من جاهلية لإسلام، تنبئنا أن الإسلام ما كان يوما بقعة منعزلة فيها ملائكة أطهار تقابلها بقعة أخرى منعزلة تعيش فيها الشياطين الكفار. نعم، من دخل [ ص: 114 ] حوزة لا إله إلا الله معترفا شاهدا بوحدانيته، مصدقا بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم مومنا برسالته، فقد دخل الإسلام وخرج من الكفر.

            لكن هل سلم ضربة لازب من بقايا الجاهلية ورسوباتها، وهل طهر المجتمع الإسلامي الأول من كل دخائل الجاهلية حتى ننتظر من مجتمع اليوم وغد أن يدلي ببراءة ملائكية وإلا فهو كفر وجاهلية وبدعة وضلالة ؟ " [2] .

            ولعل من حق القارئ أن يسأل: إذا لم نصف المجتمع الإسلامي المعاصر بالجاهلية، فبماذا نصفه ؟ وهو غير خالص الإسلام؟

            أقتطف هنا كلاما للأستاذ عبد السلام ياسين يعطي وصفا قرآنيا نبويا لما عليه المسلمون اليوم حين يقول: "متى اختلط الحق بالباطل، ودخل الإسلام على الجاهلية فبقي منها رواسب، أو أعادت الجاهلية كرتها على الإسلام فعكرت صفوه، فتلك "الفتنة". الفتنة مفهوم محوري، الفتنة حكم نبوي، الفتنة تحفظ وحكمة ولزوم لجانب التحري والصواب" [3] .

            وقد وردت مادة "فتن" في القرآن الكريم ستين مرة. وقال الراغب الأصبهاني في تعريفها: "أصل الفتن إدخال الذهب النار لتظهر جودته من رداءته، واستعمل في إدخال الإنسان النار... وجعلت الفتنة كالبلاء في أنهما يستعملان فيما يدفع إليه الإنسان من شدة ورخاء. وهما في الشدة أظهر معنى وأكثر استعمالا" [4] . [ ص: 115 ]

            التالي السابق


            الخدمات العلمية