الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            معلومات الكتاب

            ظاهرة التطرف والعنف (من مواجهة الآثار إلى معالجة الأسباب) [الجزء الأول]

            نخبة من الباحثين

            أزمة العقل الإسلامي

            قبل سد باب الاجتهاد كان الاجتهاد، الذي يصدر من المجتهدين يتميز بمميزات نجملها في:

            أولا: كان اجتهـاد الصحـابة، رضي الله عنهم، قائما على وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم الغاليـة: ( تجعلونه شورى بين العابدين من المؤمنين ) [1] . هذه الوصية إن كان أخذ بها الفقهاء الصحابة، رضي الله عنهم، فإن بعد الانكسـار التاريخي لا نجد لها ذكرا أو أثرا. ولئن كانت مهمة استشارة العابدين من وظائف الحاكم، فإن الحكم كما رأينا قد انحرف عن منهاج النبوة، وافترقت الدولة عن الدعوة، وحصل شرخ بين مؤسسة العلماء ومؤسسة الحكم. والصواب أن تكون الدولة خادمة للدعوة وراعية لها.

            وهكذا، ساد الاجتهاد الفردي، الذي كان من العلماء الأفذاذ، كما رأينا.

            ثانيا: إن الناظر في اجتهاد العلماء بعد الانكسار التاريخي يجد غزارة في قضايا الزواج والطلاق والحنث والعبادات، مقابل نزر يسير في قضايا الأمة والمجتمع والعلاقة مع النظام الحاكم. ويعجب الشيخ محمد الخضري فيقول: "ومما يقضي بالعجب أنهم اتخذوا ثلاثة موضوعات أساسا لمئات المسائل، التي كدوا في إبراز الجواب عنها، وهي الرقيق والتصرف فيه، والزوجة وطلاقها، والأيمان والحنث. [ ص: 107 ]

            فأما الرقيق فيظهر أنه كثر في أيديهم كثرة وجهت أفكارهم إلى العناية بأحكامه، فلا ترى بابا من أبواب المعاملات إلا وأكثر مسائله مبنية على عبد وجارية، ترى ذلك في البيع والإجارة والشركة والرهن والوصية والعتق وغير ذلك.

            وأما طـلاقها فقـد أجهـدت الفكر لعلي أصل إلى ما وجه أفكارهم إلى هذه المسائل التي وضعوها فلم أوفق، ولو كانت من المسائل التي يتصور وقوعها ولو من هذا لقلنا: إنهم يهيئون للحوادث أجوبتها حتى لا يتوقف مفت أو قاض إذا سئل عنها، أما وهي مما يصعب تصور حصوله فإن العجب يزداد والأسف يشتد على زمن بذل فيها.

            أما الأيمان والنذور فهي بحر لا ساحل له، ترى فيه تنويعا مدهشا كأنهم استـحضروا كل ما يصوره الخيال من الأيمان فذكروه وذكروا جوابه، مع أن في ذلك أشياء كثيرة جدا يختلف العرف فيها باختلاف البلاد" [2] .

            وكان لسد باب الاجتهاد نتائج خطيرة كان لها أخطر الآثار وأسوأ العواقب على الفكر الإسلامي عامة، والفكر الفقهي خاصة. فلم نعد نلحظ ذلك التوقد والتوهج والحيوية في المنتوج الفكري اللاحق، وإنما بتنا نقرأ مؤلفات سمتها الأساسية التكرار والجمود... وهذا ليس مقصورا على كتب الفقه والأصول، بل شمل كل أجناس الفكر والإبداع. ورغم هذا، كان [ ص: 108 ] يظـهر من حـين لآخـر منتـوج فـكري يحـاول التمرد على الأعراف التقليدية السائدة والتخلص من موروثات الجمود التي أخذت تتحكم في الفكر والفقه...

            تلك النتائج التي نجمت، في نظرنا، عن سد باب الاجتهاد نجملها في:

            1- استفحال القطيعة بين الدعوة والدولة: فبعد أن سد باب الاجتـهاد، والـذي كان من نتـائج فصل الدعـوة عن الدولة، ازدادت الهـوة اتساعا بين الدعـوة والـدولة، وتقوت القطيـعـة بين مـؤسـسـة الحـكم ومؤسسة العلماء، إلا ما كان من تدجين الأولى للثانية واحتضان غير شرعي لها.

            ويتبين هذا الأمر من خلال السجون التي كانت تستقبل كل معارض للحكم، أو التعذيب الذي كان يطال كل عالم لا ينصاع للتوجه السياسي العام للنظام الحاكم، ولا أظن أن أحدا ينكر ذلك.

            2- الفجوة بين الشريعة والواقع: فتوقف الاجتهاد يعني تجاهل متطلبات الواقع من أحكام وفتاوى وآراء لينصلح بـها أو ليواكب بها الإنسان موكب الشريعة التي إنما جاءت لتخرجه من ظلمات الشرك والظلم إلى نور التوحيد والعدل. لكن بعد سد باب الاجتهاد بدت آراء السابقين هي صاحبة الكلمة في واقع متغير مختلف تماما عن سابقه. من هنا أصبحت شريعة الله عز وجل مجرد أفكار نظرية لا تستطيع أن تؤثر في الناس أو تصلح [ ص: 109 ] واقعهم أو توجه حياتهم. بل حتى التنـزيل مادام أنه يحتاج إلى اجتهاد فقد غدا ضربا من الخلط والتخبط.

            وهذا ما دفع ابن القيم، رحمه الله، إلى الإعلان في كتابه "إعلام الموقعين عن رب العالمين" أن:

            - لا بد من ""فهم الواقع والفقه فيه واستنباط علم حقيقة ما وقع بالقرائن والأمارات والعلامات حتى يحيط به علما... فالعالم من يتوصل بمعرفة الواقع والتفقه فيه إلى معرفة حكم الله ورسوله، كما توصل شاهد يوسف بشق القميص من دبر إلى معرفة براءته وصدقه، وكما توصل سليمان صلى الله عليه وسلم بقوله: "ائتوني بالسكين حتى أشق الولد بينكما" إلى معرفة عين الأم..." [3] .

            - الفتوى تتغير بحسب تغير الأزمنة والأمكنة والأحوال والنيات والعوائد، والحكمة في ذلك أن الشريعة مبنية على مصالح العباد في المعاش والمعاد. قال: "هذا فصل عظيم النفع جدا، وقع بسبب الجهل به غلط عظيم عـلى الشريعة أوجـب مـن الحرج والمشقة وتكليف ما لا سبيل إليه ما يعلم أن الشريعة الباهرة، التي في أعلى رتب المصالح لا تأتي به; فإن الشريعة مبناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد، وهي عدل كلها، ورحمة كلها، ومصالح كلها، وحكمة كلها; فكل مسألة [ ص: 110 ] خرجت عن العدل إلى الجور، وعن الرحمة إلى ضدها، وعن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى البعث; فليست من الشريعة وإن أدخلت فيها بالتأويل; فالشريعة عدل الله بين عباده، ورحمته بين خلقه، وظله في أرضه، وحكمته الدالة عليه وعلى صدق رسوله صلى الله عليه وسلم أتم دلالة وأصدقها..." [4] .

            إن حدوث الفجوة بين الشريعة والواقع إنما هو بتوقف البحث في المسائل الفقهية والأصولية من جهة، ومن جهة أخرى باتباع وتقليد السابقين والتزام آرائهم وفتاواهم، كما هو الشأن في فتوى إمامة المستولي بالسيف.

            ويحق لنا أن نتسـاءل: كيف عاش المسلمون طيلة عشرة قرون على نتاج القرون الأولى؟!

            وفي القرن الثامـن الهـجري جاء الإمـام الشاطبـي، رحمه الله (790هـ) ونادى منـذرا ومحـذرا بأعلى صوته: إن الشريعة في خطر، واستنهض الهمم من أجل الحفاظ عليها وعلى مقاصدها، لأن مخلفـات سد باب الاجتهاد هددت الشريعـة الإسلامية كما هددت وحدة المسلمين.

            فقام ينبه على أن "وضع الشرائع إنما هـو لمصـالح العباد في العاجل والآجـل معا" [5] ، وأن "المقصـد الشرعي من وضع الشريعة إخراج المكلف عن داعية هواه، حـتى يكون عبدا لله اختيارا، كما هو عبد لله اضطرارا" [6] . [ ص: 111 ]

            وما دامت شوكة الإسلام قائمة، وبيضة الإسلام لم تنكسر بعد، فإن الشاطبي، رحمه الله، ومن سبقه، لم يتكلموا عن وحدة المسلمين، ذلك الأمر الجامع، فعبروا عن مقاصد الشريعة في صيغة حفاظية لا مطلبية. أما اليوم، فجدير بعلمائنا أن يسألوا: أين وحدة المسلمين؟ أين هي شوكتهم؟ أين هي شريعتهم؟ وهذه خطوة أولى في حل أزمة العقل الإسلامي.

            فمن أعمى بصره عن واقعـه وغفل عنه، فإنه لا يعبد الله عز وجل تمام العبادة، ولا يوفيها حقها. كما أن من اعتبر نصوص القرآن وصحيح الحديث دون فهم حقيقة واقعه فإنه لا يقدر على الاجتهاد والتغيير. ذلك أن دراسة المجتمعات، وفهم واقعها، وتاريخها وثقافتها ومعادلاتها الاجتماعية، هو السبيل إلى معرفة كيفية التعامل معها، وإلى تقويم سلوكها بشرع الله. وإذا غفلت الحركة التغييرية عن الواقع في عملها فإن مصيرها أحد ثلاثة: التأخر، أو الفشل وهذا يوصل إلى العنف.

            ويلخص لنا الشيخ القرضاوي أزمة التعامل مع الواقع فيقول: "رأينا فقهاء الأوراق يقاتلون على أشياء يمكن التسامح فيها، أو الاختلاف عليها، أو تأجيلها إلى حين، ويغفـلون قضايا حيوية مصيرية، تتعلق بالوجود الإسلامي كله، وهؤلاء قوم قد لا ينقصهم الفقه، ولئن جاز تسميتهم (علماء) فلا يجوز تسميتهم (فقهاء) لو كانوا يعلمون" [7] . [ ص: 112 ]

            التالي السابق


            الخدمات العلمية