الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            معلومات الكتاب

            ظاهرة التطرف والعنف (من مواجهة الآثار إلى معالجة الأسباب) [الجزء الأول]

            نخبة من الباحثين

            السبب الأول: سيادة ثقافة العنف:

            إن الفهم المنقوص أو المشوه للدين، وتجذر بعض الأفكار والتقاليد الموروثة المكرسة للنظرة الدونية للمرأة، والرؤية الجاهلية لطبيعة العلاقة بين الذكر والأنثى، تلك التي تحكمها ثنائية التملك والاستعباد، وتتداول فيها بفهم مشوه أحاديث نبوية مثل حديث: ( لو كنت آمرا أحدا أن يسجد [ ص: 142 ] لأحد لأمرت النساء أن يسجدن لأزواجهن ) [1] ، وحديث: ( استوصوا بالنساء، فإن المرأة خلقت من ضلع، وإن أعوج شيء في الضلع أعلاه، فإن ذهبت تقيمه كسرته، وإن تركته لم يزل أعوج، فاستوصوا بالنساء ) [2] ، وحديث: ( ما رأيت من ناقصات عقل ودين أذهب للب الرجل الحازم من إحداكن ) [3] ، وحديث: ( ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء ) [4] ، فرأى بعض ضعيفي الفهم أن مثل هذه الأحاديث أعطت الحق للمجتمع الذكوري للهيمنة والتسلط وممارسة العنف ضد الأنثى، سواء كانت زوجة أم بنتا أم أختا. فعلى مستوى الحياة الزوجية أسقطت هذه الثقافة من منظومة المعاشرة الزوجية بند الحقوق، ولم تستبق غير بنود الواجبات التي تضخمت واتسعت حتى شملت الأمزجة الشخصية [ ص: 143 ] والموروثات الثقافية، وغابت أو غيبت أحاديث كثيرة تضع الأحاديث الأولى في نسقها الصحيح، أحاديث تدعو إلى احترام الزوجة، والإحسان إليها وتجنب ضربها، من مثل:

            قـولـه صلى الله عليه وسلم : ( خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي ) [5] وقولـه: ( لا يجلد أحدكم امرأته جلد العبد ثم يجامعها في آخر اليوم ) [6] ، وقـول السيـدة عـائشة، رضي الله عنها، واصفة النبي صلى الله عليه وسلم : "ما ضرب رسـول الله صلى الله عليه وسلم خـادما له، ولا امـرأة، ولا ضـرب بيـده شيئا" [7] ، وقـول النبي صلى الله عليه وسلم لفـاطمـة بنت قيس، رضي الله عنها، عنـدما استشـارته في معاوية بن أبي سفـيان وأبي جهـم عندما تقدمـا لخطبتها: ( أما أبو جهم فـلا يضـع عصاه عن عاتقه - وفي رواية لمسلم: وأما أبو جهم فرجـل ضراب للنساء"- وأما معاوية فصعلوك لا مال له، انكحي أسـامة بن زيد، فكرهته، ثم قال: انكحي أسامة، فنكحته فجعل الله فيه خيرا واغتبطت ) [8] . [ ص: 144 ]

            هذه الأحاديث، التي تبين هديه صلى الله عليه وسلم في التعامل مع أهله، التي أحسن ابن القيم تلخيصها عندما قال: "وكانت سيرته مع أزواجه: حسن المعاشرة، وحسن الخلق.... وكان يقول: ‏ ( خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي ) [9] ، أحاديث تبين أن اللجوء إلى الضرب حالة استثنائية تصلح لظروف محدودة.

            كما أصلت هذه الثقافة المشوهة لمبدأ التسلط في علاقة الأبناء بالآباء، فمادام الطفل ابنك فهو ملكك ومن حقك التصرف فيه كيفما تشاء، ويزيد الطين بلة ترويج الفهم المشوه لمثل قوله صلى الله عليه وسلم : ( .. مروا أبناءكم بالصلاة لسبع سنين، واضربوهم عليها لعشر سنين، وفرقوا بينهم في المضاجع ) [10] ، الذي يرى فيه بعض قاصري الفهـم شرعيـة مطـلقة للضرب، ومحمـدة للحازم فيه، ويغيب في إطـار هـذا الفكر المشوه مفهوم أن الأبناء أمانة والواجب حفظها وفق منهج الله تعالى، وتغيب في ذات الوقت أحاديث كثيرة تبين حقيقة العلاقة الأسرية مثل قوله صلى الله عليه وسلم : ( ليس من أمتي [ ص: 145 ] من لم يجل كبيرنا، ويرحم صغيرنا، ويعرف لعالمنا حقه ) [11] ، وحديث السـائب بن يزيد "أن النبـي صلى الله عليه وسلم قبل حسنا فقال له الأقرع ابن حابس: لقد ولد لي عشر ما قبلـت واحدا منهم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( لا يرحم الله من لا يرحم الناس ) [12] ، وحـديث أن: ( الحسـن ركب على ظهر النبي صلى الله عليه وسلم وهو ساجد، وتأخر النبي صلى الله عليه وسلم في السجود وقال: كرهت أن أقوم من السجود حتى يقضي نهمه من الركوب، ) وأنه عليه الصلاة والسلام ( كان يصلي وهو حامل أمامة بنت زينب، فإذا قام حملها وإذا سجد وضعها ) [13] ، وقول النبي صلى الله عليه وسلم : ( من كان له ثلاث بنات فصبر عليهن، وأطعمهن، وسقاهن، وكساهن من جدته، كن له حجابا من النار يوم القيامة ) [14]

            هذه الأحاديث تبين أن الضرب حالة استثنائية لا يقصد منها الانتقام من الأولاد، وإنما يلجأ إليه عندما تستنفد كل الوسائل، وعندما يترجح للوالد أنها ستكون مجدية، على أن لا يكون ضربا مبرحا. [ ص: 146 ]

            الحـاصل أن هذه الثـقـافة المشوهة وجـدت من يتبناها ويتعـامل معها كمسلمات وحقائق قطعية، والأخطر من هذا هو أن تتولى هذه الثقافة المشوهة مهمة التسويغ للعنف والتأصيل له من خلال تعويد المرأة والأولاد تقبل هذا العنف وتحمله والرضوخ إليه، الأمر الذي يجعل الطرف الممارس للعنف يتمادى في عدوانه.

            التالي السابق


            الخدمات العلمية