الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            معلومات الكتاب

            ظاهرة التطرف والعنف (من مواجهة الآثار إلى معالجة الأسباب) [الجزء الأول]

            نخبة من الباحثين

            - أزمة الاتصال والتغلغل:

            نتوقف بشيء من التفصيل عند واحدة من أزمات التنمية السياسية لأهميتها، هي أزمة الاتصال والتغلغل.

            ولعـل التحـدي الإعـلامي في التعـامل مع الإرهاب واقع وملموس، إذ تتعالى الأصوات أن وسائل الإعلام تنحرف عن وظيفتها في مكافحة العنف إلى تمجيد الإرهاب والتحريض عليه.

            هناك كثير من مشكلات العنف التي فرضت نفسها على الساحة الدولية أخيرا، تفاعلت بسبب قدرات الاتصال التي تهيأت في العالم. فمثلا ظلت الصراعات التقليدية مستعرة بين (الجرون والقرون) في إقليم دارفور [ ص: 86 ] السودانية سنوات طوال، دون أن يسمع بها العالم. لقد وصل عدد القتلى في بعض المواجهات في سنوات الثمانينيات من القرن العشرين إلى ثمانية آلاف قتيل. أما في عصر الهواتف النقالة والأقمار الصناعية فقد فرضت المشكلة نفسها على العالم بشكل سريع جدا.

            والإعلام الدولي، إلى جانب أنه ضاعف من إمكانيات وصول الحدث إلى الجمهور، فإنه يقوم على الانتقائية الضارة للأخبار جريـا وراء الإثارة والتسويق. ولا يخفى ما صار عليه المشهد الإعلامي العالمي من تنافس تجاري لإشباع فضول المشاهدين بالجديد من الأنباء، وفي سبيل ذلك تتنازل محطات التلفزيون ودور الصحف عن أخلاقيات المهنة، وربما نقلت عن العناصر المتهمة بالعنف نفسها التصريحات التحريضية بحجة أن المشاهد سوف يتلقى هذه المادة عن طريق الإنترنت والفيديو الشخصي.

            إن حوادث العنف بما تنطوي عليها من ديناميكية وحركة، تظل أكثر المواد الإعلامية جاذبية، وهذه الميزة نفسها توظفها حركات العنف لكسب الاهتمام وإلحاق مزيد من المعاناة بالأبرياء، وقد يستغلون حاجة الإعلام إلى الإثارة، فتعمد إلى تضخيم عملياتها وتغيير أسلوبها، لأن حوادث العنف باتت تقاس في الإعلام بمدى غرابتها ودمويتها وبقدر ما توقع من ضحايا.

            ويضاف إلى ما سبـق أن جمـاعـات العنف صارت تتمتع بقدرات في تكتيكات الدعاية، ولاسـيما توظيف عنصر التوقيت للوصول إلى أكبر [ ص: 87 ] قدر من المشاهدين. لكل ذلك ذهبت بعض الجهات، بما فيها جهات غربية مثل الاتحاد الأوروبي، إلى التفـكير بإعادة النظر في استراتيجية التعامل مع الحوادث (الإرهابية)، وبدأت تتساءل في جدية: هل يصبح من الضروري المسارعة إلى نشر أنباء الحوادث (الإرهابية) أم يتم اللجوء إلى منع النشر ما أمكن ذلك؟ وإلى أي مدى يمكن التسامح مع أخبار (الإرهاب)؟

            المنع التام غير ممكن بطبيعة الحال. أما المقدور عليه فهو إيجاد تقاليد مهنية وقوة أخلاقية ترتقي بالأداء الإعلامي فوق أهواء السياسة، بوضع المصلحة العامة فوق كل اعتبار. بذلك وحده يمكن الكف عن تأجيج المشاعر والتفنن في عرض النـزاعات بما لا طائل من ورائه.

            لقد صار الإرهاب الحديث في كثير من وجوهه إعلاميا. لا بد من أن يضع الإعلاميون نصب أعينهم هذه الحقيقة، وأن هذه التطورات تجعل الإعلاميين في موضع استغلال لأطراف تدير معركتها في ساحة الإعلام، وقد استطاعت جماعات العنف أن تنجح في توجيه الإعلام وفق أهدافها ومـراميـها. والمثال الواضـح عـلى ذلك أن الصـور والخطابات المتداولة في الإعلام تقدم خدمات مزدوجة، فهي من ناحية جزء من التفاوض مع الطرف الآخر في الصراع، ويتم تسريب رسائل مشفرة عبرها (أغلب المخطوفين في العراق، الذين كثرت صورهم في وسائل الإعلام، انتهت فترة اختطافهم نهاية سلمية). [ ص: 88 ]

            عرض المفكر الأمريكي "نعوم تشومسكي" نموذجين للتعامل مع العنف؛ النموذج البريطـاني في التعامل مع الجيش الجمهـوري الأيرلندي، ونموذج أمريكا مع ما يسمى الإرهاب الدولي. في كلا النموذجين استخدام كثيف لوسائل الإعلام مع تباين واضح في الأسـلوب. وهناك بعض الدروس والقواعد المستخلصة من النموذجين، من أهمـها أن يكون التناول الإعلامي للحدث الإرهابي مساويـا لحجم الجريمة دونما زيادة أو نقصان. والهـدف من ذلك نقـل الحـدث في حجمه الطبيعي، كي لا يحدث أثر غير مطلوب في الجمهور، ذلك أن إدراكهم الواقعي بالحدث هو الذي يدفعهم إلى اتخاذ الموقف المناسب. يوجز أحد أساتذة "هارفارد" بقوله: "Telling it like it is" فمن الضروري أن يعرف الناس العاديون ما يجري حولهم من حوادث، وأن يكونوا مطـلعين على التفاصيل التي تهمهم مهما كانت سيئة، وإلا فكيف لهم أن يساندوا أو يؤيدوا.

            إن الأخبار في عمومها ليست أحاديث جميلة أو مفرحة، كما يقولون، فعلى وسائل الإعلام أن تنهض بمهمة التوعية في المشكلات ذات الصلة بمصير الناس وحياتهم؛ عليها العناية بإرشاد الجمهور إلى كيفية التصرف عندما يتعرض للخطر؛ وفي أوقات الأزمة لا يقتصر دور الإعلام على تقديم الأنباء والتحليلات، بل تقديم (معلومات منقذة للحياة) وإشراك الجمهور العام في درء الأخطار. [ ص: 89 ]

            التالي السابق


            الخدمات العلمية