المطلب الثاني: تعارض العزلة مع المسؤولية المجتمعية عند العالم المصلح:
اعتزال المجتمـع خطـورته كبيرة، ويحرم الإنسـان من ثواب جزيل، لا يمكن أن يتحصل عليه إلا من خلال خلطته.
عن أبي هريرة رضي الله عنه : ( مر رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بشعب فيه عيينة من ماء عذبة فأعجبته لطيبها، فقال: لو اعتزلت الناس فأقمت في هذا الشعب؟! ولن أفعل حتى أستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: لا تفعل، فإن مقام أحدكم في سبيل الله أفضل من صلاته في بيته سبعين عاما، ألا تحبون أن يغفر الله لكم، ويدخلكم الجنة؟ اغزو في سبيل الله، من قاتل في سبيل الله فواق ناقة، وجبت له الجنة ) [1] .
فالخلطة لها بركاتها، وينال صاحبها بسببها ما لا يناله ويتحصل عليه بعزلته، وإن كدر الخلطة مقدم على صفاء العزلة، ومن المفاهيم الخاطئة رغبة البعض في الراحة من الناس وعدم الاحتكاك بهم، والحرص على تلاشيهم، وعدم الجلوس معهم، والرغبة في البعد من أجل صفاء النفس وراحة البال وسلامة الذهن، وهذا كله ليس صحيحا، فمن ابتعد عن الناس رغبة في الراحة وصفاء الذهن لم يفهم الإسلام فهما جيدا، ولم يستوعب حقيقة الرسالة الإسلامية القائمة على العيش بين مجتمع له طبيعته المقتضية الخلطة، [ ص: 165 ] والوجود بين ناس لهم آراؤهم، وطباعهم، وتصوراتهم، وأمزجتهم، وهو في وجوده بينهم مؤثر فيهم ومبتلى بهم، وهذا يؤهله لنيل الأجر الكبير والجزاء العظيم. وقد دعت "رسائل الإصلاح" إلى الخلطة الإيجابية، وحذرت كل التحذير من العزلة السلبية.
يقول، رحمه الله:
"وإذا هان اعتزال من لا يرجوه الناس لعلم أو رأى أو معونة على عمل اجتماعي، فإن عزلة العالم أو المجرب للأمور أو المستطيع لأن يعمل مع الجـمـاعة خيرا، ذات خـطـر كبير، وبالأحـرى حـيث تظـهـر المنـكرات، أو تكون الأمة غارقة في جهالة أو تبتلى بملمات اجتماعية. واعتزال العالم للجـماعة قد يـكون له أثر في قلة إصابته فيما يتعرض له من الفتاوى، فإن للنظر في الوقائع من ناحـية ما يترتب عليها من خير أو شـر دخلا في إصابة الحق، "ولا يستقيم النظر في الوقائع.. إلا لمن يتصل بالناس ويرسخ في معرفة أحوال المجتمع، وكيف يدري هذه الأحوال من هو غائب عنها بعيد عن مصادرها ومواردها" [2] .
فمن الناس من لا تؤثر عزلته، ويستوي الأمر في وجوده وغيابه، فليس مؤثرا ولا صاحب بصمة، وليس فاعلا في وجوده بين الناس.
ومن الناس من يتأثر المجتمع بعزلتهم، ويعاني بغيابهم، ومن هؤلاء العلماء. [ ص: 166 ]
فالعالم لا يمكن له إلا أن يكون مختلطا بالمجتمع، معايشا الناس، وإن جاز لغيره العزلة فلا يجوز له ذلك؛ لأن وجوده في المجتمع يؤثر فيه تأثيرا إيجابيا، فيتصدى لمشكلة، ويفك معضلة، ويقوي ضعيفا وينصر مظلوما، ويفتي الناس، ويعلم الجاهل، ويرشـد الضال، ويهدي الحيران، وهذا وغيره لا يتحصل عليه العالم وهو بعيد عن هذا المجتمع، منعزل عنه لا صلة له به، بل إن العالم يفقد مصداقيته، وتذهب من القلوب آثار كلماته إن اعتاد الناس رؤيته فقط يعظ في المسجد، ويخطب على المنبر، فمثل هذا النظام مع الناس يعد من العزلة أيضا، إنما العالم يكون مع الناس في مشكلاتهم، ويعايش أحوالهم، ويتعرف أخبارهم، ويكون لهم كما يكون الوالد لولده.
وقد عدت "رسائل الإصلاح" العزلة السلبية من الأزمات، التي نزلت بالأمة، والمعوقات التي تعوق النهضة والتقدم والرقي.
- عزل العلماء والمصلحين:
العلماء والمصلحون لهم إسهام كبير في نهضة الأمة، وأصحاب الأهواء والمصالح الشخصية ليس من مصالحهم وجود هؤلاء العلماء والمصلحين ومن ثم يقفون أمامهم، ويقومون بعزلهم عن الحياة وعن إدارة المجتمع، والأخذ بأسباب النهضة الشرعية، وكان عزل العلماء والمصلحين وخلو الساحة منهم مدعاة لوجود غيرهم ممن ليس في باله ولا في تفكيره صالح الإسلام والمسلمين. فعند عزل الفقهاء والمصلحين يسود القبيلة منافقوها، ويتحكم فيها لكاعها، ويقود الركب أهل الغش وعدم النصح للأمة. [ ص: 167 ]
قال الإمام: "إن بعض نشئنا المتخرجين من مدارس غير إسلامية قد وقفوا موقف الدعوة إلى الإصلاح ولم يصبروا أنفسهم على تعرف آداب الدين فحادوا عن طرق الإصلاح النقية، ولم يبالوا أن يجهلوا على الدين ويجحدوا أن يكون له في الحياة المدنية سلطان كبير أو صغير" [3] .
فيكون الأمر لغير أهله، وتكون الخطورة على عقول المسلمين من أصحاب التوجه الزائف، والقيادة التعليمية الفارغة من المضامين الشرعية والمعطيات الإيمانية.
- انزواء أهل الشريعة:
تكون العزلة في الانزواء والتقوقع حول الذات، والتمحور حول النفس، وعدم وجود قابلية من العلماء للإسهام والمشاركة، ويرجع هذا إلى الطبيعة الخاصة، وإلى التركيبة الشخصية التي لا تتفق مع وضع الأمة ومقتضيات الهموم والمشكلات فيها.
يقول الإمام: "إن كثيرا ممن درسوا العلوم الإسلامية تقاعدوا عن أن يخوضوا في شؤون الحياة المدنية، فكان انزواؤهم وزهدهم في منصب الإرشاد العام فرصة لظهور الدعايات المنحرفة عن الطريق المستقيم" [4] .
فانزواء العلماء يفتح الباب للأدعياء، ويعطيهم سند التحدث بلسان الإسلام، وتصريح الدخول على قلوب وعقول المسلمين، وهذا له خطورته الكبيرة. [ ص: 168 ]
ومن هنا فالعالم ليس منزويا، إنما هو مع الناس في كل مكان، بسمته وهديه وشخصه وعمله، فيكون النموذج الأمثل، والقدوة في التعامل، والمثال في السلوك والتصرفات، فيتأثر به الناس، وتكون دعوته العملية أجدى من دعوته القولية، وتأثيره بسمته وهديه أكثر من تأثيره بوعظه وزجره.
- البعد عن المجتمع للفساد:
وجود الفساد في المجتمع مشجع لأهل الإصلاح الوجود في المجتمع للنهي عن الفساد، وليس داعيا إلى تركهم المجتمع، وترك الساحة لأهل الباطل والمجون.
"وقد يخطـر بالبال أن الشـر في هذا العصـر أصـبح مسـتطـيرا، وأن للضلال والفساد دعاة لا يملون، وجنودا لا يتقهقرون... قد يخطر كل هذا ببال الرجل فينحدر في غم ويضل سبل التفكير، فلا يرى طريقا للخلاص من هذا الغم سوى البعد عن المجتمع والعيش في عزلة لا يسمع فيها صوت الباطل، ولا يبصر فيها منظرا من مناظر الإباحية المتهتكة.
ربما نسمع مثل هذا الخاطر من بعض من نشأوا في رشد وصلاح، وقد يكون هذا الخاطر وليد سريرة طيبة، ولكن العمل عليه يزيد الضلال صولة والفساد جولة، ويجعل المجتمع الذي تستمد منه الأمة حياتها ظلاما لا يخلفه ضياء، ودنسا لا يغسله ماء" [5] . [ ص: 169 ]
فاليأس مرفوض، وليس له أي مبرر، ولا يقبل لأصحابه أي تعليل، فالرسالة الإسلامية قائمة على الجهاد في سبيل الله والأخذ بالأسباب، والوقوف أمام مظاهر الفساد مع الاستعانة بالله تعالى، فالعالم الذي يحترق قلبه لتلك الظواهر المنحرفـة يلزمـه أن يعالجـها بـكل ما يسـتطيع، ومن مكونات اسـتطاعته: تعاونه مع غيره، ومد جسـور التعاون مع الكفاءات المختلفة للتصدي لكل ما يهدم المجتمع، ويخرب القيم.
وإن عملا مع توفيق مهما كانت درجتـه ومهما كان حجمه أفضل من أعمال لم يصـاحبها توفيق، فأفضل نعمة تنزل من السماء إلى الأرض هي التوفيق، وأخـطر ما يصاب به العبد هو الخذلان، فمن وفق نقل جبلا من مكانه بقدرة الله تعالى، ومن خذل لم يستطع أن ينقل حبة رمل من مكانـها، فما على العبد إلا أن يأخـذ بالأسباب، أما النتائج فليست إليه إنما هي إلى الله عز وجل. [ ص: 170 ]