الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                  المطلب الثاني: سوق الأمثلة على الفكرة العلمية:

                  تميزت "رسائل الإصلاح" بكثرة الأمثلة والشواهد على الفكرة العلمية، ومن ملامح ذلك:

                  - البراعة في سوق المثال:

                  الجزئية العلمية في "رسائل الإصلاح" مشبعة بالأمثلة التي توضحها من كل جوانبها، وتجليها بجميع أبعادها. بل من مميزات "رسائل الإصلاح" كثرة الأمثلة والشواهد والأدلة على جميع ما ذكر فيها من جزئيات علمية.

                  وهذه الأمثلة المساقة فائقة بصورة تدعو إلى قراءتها بلذة ومتعة حـتى إنها تستدعي من القارئ التفاعل معها من خلال ملامح التأثير عليه من بسمة ودهشة وكلمة تخرج بصورة عفوية دلالة على قمة التفاعل والتجاوب مع هذه الأمثلة وتلك النماذج. وهذا يدل على صدق الإمام والقدرة على انتقائه للأمثلة، وخبرته في سوق النماذج المدللة والوقائع الشاهدة، ومن ذلك مثاله على لذة العلم والراحة به، والنشاط والقوة بسببه.

                  "حضر الشريف التلمساني [1] وهو صبي درس الأستاذ أبي زيد بن الإمام، فذكر أبو زيد نعيـم الجنة، فقـال له الشريف: هل يقرأ في الجنة العلم؟ [ ص: 118 ] فقال أبو زيد: نعـم، فيها ما تشـتهيه الأنفس وتلذ الأعين، فقال الشريف: لو قلت لا، لقلت لك لا لذة فيها، فعجب منه الشيخ ودعا له" [2] .

                  فالأفكار حـول نعيم الجنـة تختلف من إنسـان لآخر، فيفكر بعضهم في المتاع المادي، ويفكر آخرون في المتاع المعنوي، وهذا ليس تقليلا من التفكير في المتـاع المـادي، فهو من أنـواع الجـزاء في الجنة، وتتعلق به الأفكار والهمم.

                  - التوضيح للفكرة بأكثر من مثال:

                  الفكرة في "رسائل الإصلاح" مشبعة بالشواهد المتتابعة التي تجليها وتظهرها على أوفي ما يكون، والشواهد المسـاقة للفكرة ليس فيها تكرار، إنما كل شاهد موضوع لأمر معين تحت هذه الفكرة مما يجعل الفكرة موزعة على أمور لكل أمر منه شاهد بعينه يبرزه ويجليه وينضم مع جميع الأمور مجليا الفكرة على أوفى ما يكون، ومثال ذلك:

                  موضوع الإخلاص، فيه توضيح بالأمثلة على كل جزئية، من ذلك:

                  قصد المصـلحـة الدنيوية من عمل الخير، بعد تحقق قصـد الامتثال لأمر الله، لا ينـزل به عن درجة القبول.

                  كأن يقصد من رحلته التجارة مع قصد أداء فريضة الحج، أو يقصد التبرد بعد قصد التطهر بالماء لأداء فريضة الصلاة. [ ص: 119 ]

                  أو يقصـد التـلذذ بالعلم بعد أن يقصـد الوجه، الذي اقتضى أمر الشـارع بدراسـته [3] .

                  - تكرار بعض الأمثلة:

                  تكررت بعض الأمثلة في "رسائل الإصلاح"، وهذا ليس أصلا في الرسائل إنما هو أمر نادر، ومثال ذلك: "كان السلطان سليم [4] أمر بقتل مائة وخمسين رجلا من حفاظ الخزائن، فبلغ ذلك الشيخ علاء الدين الجمالي [5] ، فدخل على السلطان وقال له: وظيفة أرباب الفتوى أن يحافظوا على آخرة السلطان، وهؤلاء الرجال لا يجوز قتلهم شرعا، فعليك بالعفو عنهم، فغضب السلطان سليم، وقال للشيخ: إنك تعرض لأمر السلطنة، وليس ذلك من وظيفتك. فقال: لا، بل أتعرض لأمر آخرتك، وإنه من وظيفتي، فإن عفوت فلك النجاة، وإلا فعليك عقاب عظيم، فانكسرت سورة الغضب في نفس السلطان، وعفا عن أولئك الرجال الذين كان قد أمر بقتلهم" [6] . [ ص: 120 ]

                  هذا المثال ورد في مقالة العلماء والإصلاح، وورد في مقالة العلماء وأولو الأمر، وبين المقالتين ترابط مما يجعل تكرار هذا المثال مستساغا ومنسجما مع ما جاء في المقالتين من مقاصد.

                  وهو يبين حرص العالم على آخرة الحاكم، وعلى جرأته في الحق، وعلى إيجاده المدخل المناسب لردع الحاكم وزجره، وهو تعرض العالم لأمر آخرة الحاكم، وهو المدخل الذي يتلقاه الحاكم بالقبول، ويكون عند الحاكم قدر من الوعي، الذي يجعله يتقبل كلام العالم، وفي نفس الوقت يعين العالم على تأدية الأمانة، وتبليغ الرسالة.

                  - عدم ذكر جميع الأمثال:

                  بالرغم من الشواهد الفائقة إلا أن الإمام يبين أن ذكر الأمثلة كلها ليس من مقصده، إنما هو يذكر ما يظهر المعنى ويفي بالغرض.

                  "ولو أخذنا نضرب الأمثال على أن التعليم الديني يطبع النفوس على خصال الشرف، ويملؤها همما لا تقف عند حد، وغيرة لا تلهو عن حق، لملأنا صحفا كثيرة أو أسفارا، ولكن المقام للتذكرة، ومن مقامات التذكرة ما يغني فيه الإيجاز عن الإسهاب" [7] .

                  فالإمام يبين الثروة في الأمثلة المتعلقة بالموضوع ويصفها بملئها الصحف والأسفار، وهذا في حد ذاته يدلل على سعة المعرفة عند الإمام، والرسوخ العلمي في الإتيان بالأمثلة الكثيرة. [ ص: 121 ]

                  - الاستشهاد بالشعر:

                  يسـتـدل الإمـام عـلى أفكاره بأبيات الشـعر، تلك الأبيات المعبرة عن الفكرة تماما، والموصـلة لمعنى يأتي البيت فيجليه بصـورة أكثر توضيحـا وتحـديدا، ومهما كانت العبـارة فائقـة، والأسـلوب رائعا في تحـديد المعـنى المطلوب، لكن بلا شـك بيت الشـعر له جـاذبـيتـه، وتأثـيره في العقول والنفوس.

                  وهذا ما كان واضحا في مقالات الإمام، رحمه الله، وهذا يدل على كثرة المحفوظات الشعرية والأدبية للإمام، وعلى تميز دراسته وإفادته منها الإفادة الكاملة، وعلى عدم تأثره بالمناخ الذي عاش فيه حياته العلمية الأولى، الذي لا يؤهل طالبا أن يكون صاحب ذوق أدبي.

                  وأيضا يدلل على قدرة الإمام، رحمه الله، على وضع المعنى المناسب من خلال البيت الشعري، الذي ينطبق تماما على المعنى، وهذا يدل على الفهم الثاقب والذهن الصافي والذكاء البارع.

                  ومن الأمثلة على ذلك مقال الشجاعة وأثرها في عظمة الأمة، فغالب الأدلة في هذا المقال من الأبيات الشعرية، وأيضا مقال الحلم وأثره في سعادة الحياة الفردية والاجتماعية، فالأبيات الشعرية فيه ملحوظة، لكنها ليست بحجم الأبيات في مقال الشجاعة. [ ص: 122 ]

                  التالي السابق


                  الخدمات العلمية