الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                  - المطلب الثاني: تحديد المقصود من موضوع المقال:

                  عني الإمام في "رسائل الإصلاح" بتحديد المقصود من المقال عناية بالغة، وكان ينفي تعرضه لكلام ليس من صلب موضوعه، ولا من مقصده، ولا مما يتصور القارئ وجوده، فكان يضع الصياغة العلمية ويبين تحتها المقصود منها. ففي مقاله عن "الإنصاف الأدبي" يقول:

                  "لا أريد أن أبحث تحت هذا العنوان عن الإنصاف الذي يفسر بالعدل. ويوصف به من ينتصب للحكم بين المتخاصمين، فقد سـبق لنا أن تعرضنا لهذا الموضوع في مقال: "القضـاء العادل في الإسـلام". كما أني لا أريد البحث عن الإنصـاف الذي هو خلق يحمل صاحبه على أن يعطي الحقوق المادية من نفسـه، كأن يعرف الرجل أن هذا المال أو المتاع حق لفلان، فيكف يده أو يرفعها عنه من تلقاء نفسه، لا يخشى [ ص: 98 ] سطوة حاكم أو لومة لائم. فللحديث عن الإنصاف الذي هو تبرئة الذمة من الحقوق المادية مقام غير هذا المقام، وإنما الغرض البحث عن ضروب الإنصاف وهو أن يقول الرجل صوابا، فتعترف بأنه محق، أو يحرز خصلة حمد فتقر بها ولا تنازع من يصفه بها، ولا أجد مانعا من أن أسمي هذا النوع من الإنصاف: "الإنصاف الأدبي"، ويقابله من الأخلاق المذمومة "العناد" وهو جحود الحق، ورده مع العلم بأنه حق" [1] .

                  فالإمام ينفي عن الموضوع تعرضه لأمور قد يفهم القارئ من خلال الصياغة أن التعرض لها منسجم مع الصياغة ومتفق معها، لكن صاحب الصياغة العلمية يجد أن هذه الأمور لا تتفق معها، ومن ثم يبين غرضه في بداية بحثه ليكون الأمر واضحا تماما عند القارئ، فمن المهم تحديد الموضوع، وإذا كان مطروحا بصياغة لا تجعل المتعامل يحدد الفهم مما تريده، فعلى الباحث أن يحدد المقصد من وراء هذه الصياغة وما ينوي معالجته تحتها. وهذا ما كان في "رسائل الإصلاح".

                  وفي مقال صدق العزيمة.. أو قوة الإرادة يبين غرضه من هذه الصياغة فيقول: "وإذا تحدثنا في هذا المقال عن قوة الإرادة وذهبنا في حديثها مذهب خصال الحمد، فإنما نعني الإرادة المتوجهة إلى ما هو خير. ومن أفضل ما يمدح به الرجل أن يتوجه بعزمه القاطع إلى إظهار حق أو إقامة مصلحة" [2] . [ ص: 99 ]

                  وفى مقال الدهاء والاستقامة يقول:

                  "ولا نقصد في هذا المقام إلى الحديث عن بعد النظر في إدراك العويص من مباحث العلوم، وإنما نقصد الحديث عن الدهاء من ناحية تقدير وسائل النفع والضرر، أو من حيث شعور صاحبه بما يحمل له من ضغن، أو ينصب له من كيد" [3] .

                  فالإمام يبين مقصده من الموضوع، ومنهجه في بحثه، كي يعطي القارئ صورة صحيحة عن المعالجة، وعن إطارها وحدودها التي تلتزم بها، وهذا له صلته بالإصلاح من خلال تحديد أسسه ومنطلقاته، وتحديد أهدافه وأغراضه، أو الوصول إلى الهدف بالدعوة السديدة، والطريقة الرشيدة.

                  - تقييد الموضوع العام:

                  الإمام، رحمه الله، في تناوله المقالات العامة، التي تحتاج في تغطيتها إلى بحوث علمية متعددة يبادر إلى تقييد هذا الموضوع العام، وتحديد وجهة البحث فيه حتى تكون المعالجة في إطار هذا التقييد، وحتى يكون التصور للموضوع في ضوء تلك الفكرة.

                  ففي موضوع سماحة الإسلام في معاملة غير المسلمين يبادر الإمام إلى تقييد الموضوع وتحديد المعالجة فيه، فيقول:

                  "ولا أستطيع أن ألم في هذا المقال بما احتوته شريعته من النظم المدنية، والقواعد التي تشهد بأنه تشريع لم يكن للعواطف البشرية والعادات القومية [ ص: 100 ] عليه من سلطان، فاكتفي بأن أصف لك ناحية يتمثل فيها عدل قضائه، ورفق سياسته، وسمو آدابه، تلك الناحية، هي أصوله في معاملة غير المسلمين" [4] .

                  فموضوع سماحة الإسلام في معاملة غير المسلمين موضوع كبير، وتحته مادة علمية غزيرة، وجهد في وضع المادة فيما يناسبها، وتوزيعها فيما يتفق معها من أبواب وفصول، ولهذا يذكر الإمام الجوانب التي سيتناولها في موضوعه تقييدا له وتحديدا للمطلوب منه.

                  وفي موضوع المدنية الفاضلة في الإسلام، يقول الإمام:

                  "سنواصل بتوفيق الله القول في نصائح الدين، التي تأخذ بيد الجماعة إلى هضبة الشرف القصوى، ونقفي على أثر النصيحة بأخرى حتى يستبين لك أن الإسلام صنع الله الذي أتقن كل شيء. وإنما أذكر في هذا المقام خصالا كالدعائم يقوم عليها صرح الحياة المـدنية بهي المنظر شامخ البناء، وما هذه الدعائم إلا العلم الصحيح والعمل النافع والخلق الرفيع" [5] .

                  فالموضوعات العامة في الإسلام كثيرة جدا، ومعالجة الموضوعات العامة علميا يحتاج إلى نوع معين من الباحثين من أهل التعمق والتشبع والقدرة الفائقة على استيعاب الفكرة والقيام بتغطيتها، ولذلك كانت الموضوعات العامة ليست متاحة لكل باحث، ولا يتمكن منها أي أحد بسهولة، فهي من السعة والعمق بمكان، وتحتاج إلى أصحاب فهم عميق ورؤية سديدة وتشبع [ ص: 101 ] كامل بالقضايا الإسلامية، وأصحاب حاسة علمية، وملكة بحثية خاصة تؤهلهم لخوض هذه الموضوعات الكبيرة، فصاحب المواصفات الخاصة هنا يتعامل مع الموضـوع بفهم واستيـعاب لجميـع مطالبه فيتعرض لما يستوجب التعرض، ويفصـل ما يسـتـوجب التفصـيل، ويقيد ما يسـتوجب التقييد، ويمر بفكرة فيعمقها، وأخرى يعبرها إلى غيرها.

                  وهكذا يكون في النهاية الموضوع العام مخدوما خدمة علمية أصيلة من أصحاب هذه المؤهلات الخاصة.

                  وأرى - والله أعلم - أن الأجدر بتناول هذه الموضوعات العامة محدودون جدا، ولهم باع طويل في خدمة الفكر الإسلامي وقضايا الدعوة، وما ينبغي على كل باحث أن يتهجم على هذه الموضوعات العامة فيغرق فيها، ولا يخرج منها بفوائد علمية محددة.

                  بل لزاما على الباحث أن يسير في حدود قدراته، وأن لا يتخـطى عامل الزمن والخـبرات العلمية المكتسبة من كثرة القراءات والإطلاعات، وألا يتخطى أيضا الأكفاء من العلماء، الذين لهم باع طويل في خدمة قضايا الإسلام. ومن ثم الأولى له أن يتنـاول فكرة محددة ومحبوسة في إطار بعينه لا يتجاوزه إلى غيره.

                  وأجد أن من المشقة على الباحث ذي الهمة والملكة العلمية والنظرة الدقيقة أن يتولى موضوعا عاما، فإنه يعيش صراعا كبيرا بين إنهاء هذا الموضوع العام وسرعة الفصل فيه، وبين تجميعه له وإرادته تغطيته التغطية المناسبة [ ص: 102 ] والمتكافئة مع صياغته، ولهذا كان من الراحة الكبيرة للباحث الجاد أن يعالج جزئية علمية دقيقة محددة يسعى إلى تلبية مطالبها، وتنظيمها فكريا من كافة جوانبها، وجمع المادة العلمية المتعلقة بها واللازمة لها.

                  وفي الجانب الآخر من الجناية على البحث العلمي أن يتناول الموضوعات العامة من ليس أهلا لها ولا جديرا بها، ومن ليست عنده مؤهلات ذلك، فيعرض الموضوع بصورة ساذجة، وبطريقة سطحية تشجع أعداء الإسلام على النيل منه، وتشجع أصحاب الثقافات المعاصرة على اتهام الثقافة الإسلامية بالمحدودية، وعدم العمق والثراء والاتساع.

                  ومن هنا يمكن القول: إن فئة تتعمد تسطيح الثقافة الإسلامية، واعتماد هذا التسطيح كمنتج ثقافي يعبر عن الإسلام الصحيح، ومن هنا تكون الضربة الشديدة للإسلام، التي تحتاج إلى من يتصدى لها من أصحاب الثقافة الواسعة، والرسوخ في العلم.

                  - الإشارة إلى معالجة الفكرة في مكان آخر:

                  الوعي بالعلم يقتضي من العالم أن يكون عالما بما يكتب وألا يكرر نفسه، وألا يعرض ما عرضه من قبل، إنما يأتي بالفكرة الجديدة التي يعالجها المعالجة السليمة ويشبعها بالمادة العلمية اللازمة.

                  ومن العجب العجيب أن يدعي البعض قلة الأفكار الإسلامية ونضب المعين، فهذا من الأمور المستنكرة التي تأباها طبيعة الإسلام، فالإسلام دين [ ص: 103 ] ثري بالأفكار غني بالقضايا ممتلئ بالموضوعات، ويلزم الجادين الغوص في أعماقه، والوصول إلى الدرر التي لا يصل إليها إلا أصحاب الهمم العالية.

                  فموضوعات الإسلام لا تنتهي، بل يلزم الباحثين الإتيان بالأفكار الجديدة التي تعبر عن حقيقة هذه الرسالة العظيمة، وتبرزها في أفاقها الواسعة، وأبعادها الكاملة، وعجبت من أحد الدعاة المشهورين بالخطابة المتميزة وهو يقول: "الحمد لله، لقد تكلمت في جميع الموضوعات"، وطرقت أبواب جميع القضايا، فأسفت أسفا بالغا على أن يكون هذا الفهم عند داعية له باعه الطويل في مجال الدعوة وله جماهيره العريضة في الأمة، ولو أنصـف الإسـلام وموضـوعاته لعلم تماما أن الموضوعات لا تنتهي، وأن الأفكار الجادة تتجدد بتجدد الزمان، وأن ما عرضـه هو يعرضه غيره في إطار بعينه ومن وجهة علمية أخرى.

                  وهذه الرؤى العلمية تنعكس على الموضوعات بالثراء والنماء.

                  والإمام، رحمه الله، في معالجته للموضوعات يبين أن فكرة قد تمت معالجتها في موضوع كذا، أو أن فكرة تحتاج إلى تعميق أكثر وتوسيع أكثر في موضوع قادم، وهكذا يحيل الإمام الفكرة إلى موضوع بعينه قد تمت معالجته، أو يحيل الفكرة ويرجئ البحث فيها في موضوع آخر تتناسب معه وتتماشى مع أغراضه.

                  وهذا يدلل على وعي الإمام بما يكتب، وعلى معايشته أفكاره، وعلى أنها عنده بمكان، وأنه لا يقبل خدشها بتكرارها، ولا الإساءة إليها بافتعال وجودها وإقحامها في أي موضوع يتناوله. [ ص: 104 ]

                  ففي موضوع "ضلالة فصل الدين عن السياسة" يقول:

                  "وأما قيام أحكام الشريعة على أساس العدل، ورسمها للسياسة خططا محكمة الوضع فسيحة ما بين الجوانب، فذلك ما لا أستطيع تفصيل الحديث عنه في هذا المقال، وفيما كتبناه ونكتبه إن شاء الله تعالى تحت عنوان: "الشريعة الإسلامية صالحة لكل زمان ومكان" ما يساعد على الإلمام بأصول الشريعة ومعرفة اتساعها لكل ما يحدث من الوقائع، والذي نقوله في هذا المقام: إن السياسة لا تجد في الدين ما يقف دون مصلحة، ولا تجد منه ما يحمل على إتيان مفسدة، لا تجد فيه هذا ولا ذاك، متى وزنت المصالح والمفاسد بميزان العقل الراجح، وكان القابضون على زمامها من حصافة الرأي في منعة من أن يطيش بهم التقليد، أو إرضاء طائفة خاصة إلى أن يروا الفساد صلاحا فيشرعوه، أو يروا الصلاح في لون الفساد فينصرفوا عنه، وليس من شأن الدين أن يراعي فيما يشرع الأهواء الجامحة، وإن كانت أهواء الملأ الذين استكبروا، أو أهواء من في الأرض جميعا" [6] .

                  وفي موضوع المدنية الفاضلة في الإسلام يقول:

                  "وأما الأخلاق الشريفة، فإن الإسلام لم يدع مكرمة إلا نبه على مكانها، وندب على التجمل بحليها، وقد عني بمزايا هي أساس رقي الأمة وانتظام حياتها الاجتماعية: كالصدق، والأمانة، والعفاف، والحلم، والعفو، والتراحم، والعدل، وعزة النفس، والشجاعة، وحرية الضمير، والإقدام على قول الحق، [ ص: 105 ] وبذل المال في وجوه البر، وسنبحث في هذه المزايا ببسط القول وإقامة الشواهد في مقام آخر إن شاء الله" [7] .

                  وفي موضوع سماحة الإسلام في معاملة غير المسلمين يقول:

                  "هذا أصل البحث في هذه المسألة، أما تفصيل المذاهب وبسط أدلتها فموضعه كتب الفقه وأحكام القرآن" [8] .

                  فالمعالجة الجادة لا تتعامل مع الأفكار بسطحية، ولا تتعجل التحدث عنها، بل شأن الجادين أصحاب الأمانة العلمية أن ينفوا عن أنفسهم القدرة في التحدث عن فكرة لم يعطوا بعد أهلية التحدث عنها، ولم تكن من الوضوح في أذهانهم بحيث ينصفونها ويعرضونها بالصورة اللائقة بها.

                  والاحترام للقراء والأمانة في التعامل مع القضايا والأفكار أن تعطي الوقت المناسب للبحث وأن تبحث بموضوعية، وأن تنصف الفكرة العلمية بتغطيتها من كافة جوانبها.

                  ولهذا كان أصل الخلل في الميدان العلمي، هو التعامل مع الأفكار بسطحية، وعدم تعميقها وتأصيلها التأصيل السديد، فهذا هو منشأ الشبهات والآراء الفاسدة وتطاول الأقزام على حقائق الإسلام، وهذا ما بينه الإمام، رحمه الله. [ ص: 106 ]

                  "أما الفريق الذين ينكرون أشياء من صميم الدين فلم يجئهم الجحود من ناحية البحث الدقيق والنظر القـائم على قوانين المنطق الصحيـح، وإنما سبقت إليهم في التعليم أو في الجلوس ببعض الأندية آراء فتقبلوها، وتراءت لهم شبه فاعتنقوها، والآراء الفاسدة والشبه المغوية تربي في النفوس الضعيفة أذواقا سقيمة، ويكون لهذه الأذواق الحكم العاجل، حتى إذا أنكرت حقا خيل إلى أصحابها أن إنكارهم صادف محزا وظلوا في جهالتهم يتخبطون، فقطع يد السارق أو السارقة مثلا، قد تنازع في حكمته بعض الأذواق الخاصة، ولكن الأحكام إنما يراعى فيها المصالح العامة، وفي قطع يد هذا الصنف من المجرمين مصلحة سنأتي على بيانها في مقام غير هذا" [9] .

                  فأصحاب الشبهات المثارة حول الإسلام، وأصحاب الفكر الثائر على أصول الدين وقواعده، غزتهم هذه المفاهيم من قلة البضاعة في الدين، ومن المعلومات الخاطئة التي أخذوها من أصحاب الثقافة المتناثرة والرؤى الموزعة، وأصحاب "أدلجة الإسلام" في اتجاه بعينه تحشد له النصوص، وتجمع له الأفكار، وتساق له الأذهان، ويغري بالوصول إليه بالمال والمناصب والأضواء.

                  وأصحاب الشبهات لو أنصفوا لطلبوا العلم من الراسخين، وأخذوه من المتخصصين، وجالسوا المراجع والمصادر العميقة، وكونوا ثقافة إسلامية رشيدة، ووقفوا على أرض ثابتة من الفهم السديد، والعلم الرشيد. [ ص: 107 ]

                  التالي السابق


                  الخدمات العلمية