الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                  المبحث الثالث

                  الخصائص الاجتماعية للعالم المصلح

                  - المطلب الأول: العمل الإصلاحي الاجتماعي:

                  العمل الاجتماعي من الأعمال التي يتوقف عليها إصلاح شؤون المسلمين، فقد خلق الله تعالى الناس على طبيعة متفاوتة، فمنهم الغني والفقير، ومنهم القوي والضعيف، ومنهم الصحيح والمريض، ومنهم صاحب الجاه والخامل،... ولا بد من وجود تعاون بين أنواع الناس حتى تستقيم شؤونهم وتصلح أحوالهم.

                  والعمل الاجتماعي من الأعمال التي يتعدى نفعها، وهو أوسع دائرة وأخصب عطاء، وأجزل ثوابا، فإعطاء الفقراء، ومساعدة الضعفاء، والتيسير على المعسرين، وكفالة الأيتام، وسد حاجات المجتمع، وإعانة المظلومين، وإعطاء المحرومين، وسداد الديون، كل هذا وغيره من الأعمال التي تصلح المجتمع، وتقوي الصلة، وتوثق العلاقة بين أفراده.

                  والمتعرض للعمل الدعوي معرض للإصابة بأذى ونزول الضرر، وحصـول الألـم، وهـو مع هـذا يتمسـك بالعمل، ويزداد إصـرارا عليه، ولا ينفصـل عنه، ولا يلوذ بالفرار منه، فهو يتحمل لوجه الله، وما أصابه في سبيل الله فهو محبوب عند الله تعالى. [ ص: 160 ]

                  والأولى بهذا العمل الاجتماعي هم أهل العلم، الذين حملوا الأمانة، ويلزمهم تأديتها من خلال ظهور آثارها على الأمة كلها، فهم أمناء على العقول والقلوب والأبدان، والعمل الاجتماعي يصلح الأبدان والنفوس.

                  "فشريعـة الإسـلام مشربة روح الاجتمـاع، ومن ثـم ترى علماءها يخـوضون في المجـامع، يقولون طيبا، ويعمـلون صالحا، وهذا عبد الله بن مسعود صلى الله عليه وسلم يقول: "خالط الناس ودينك لا تكلمنه" [1] [2] .

                  فالمخالطة بالناس مشروطة بعدم تعرض الدين لجرح، فالجراحات كثيرة، وقد يكون الجرح في مقتل، وصاحب الدين يخالط مع المحافظة على دينه، فلا يقبل إهدار القيم، وإضاعة المبادئ، والتنازل عن أخلاق دينه، وتعاليم عقيدته.

                  والعلماء، الذين لهم باع في المجال الاجتماعي ينفقون أموالهم في سبيل الله، ولا يبخلون على أصحاب الحاجات، ولا يكتفون من الدعوة بمجرد الخطابة المنبرية، أو الوعظ العام دون مشاركة المجتمع في النفقة، ورفع الكرب بالصدقة.

                  فالعالم إذا وعظ أبلغ، وإذا خطب أثر، وإذا أنفق كان سخيا كريما، فيجمع بين الجود في المال، والجود في العلم، وبين إعطاء الأمة من عقله وفكره، وإعطاء الأمة من بره وعمله. [ ص: 161 ]

                  "فمن أدب العلماء أن يسابقوا الأمة إلى اجتناب ما يؤاخذ به، وعمل ما يحمد عليه كأن ينفقوا في وجوه البر والمشروعات الصالحات ما ينفقه أمثالهم من المكثرين أو المقلين، فإن ذلك أدل على إخلاصهم، وأدعى إلى توقيرهم وقبولهم نصائحهم" [3] .

                  والعلماء لا يتركون الأمة تصارع الأهوال وحدها، ويقفون مكتفين بالمشاهدة، أو مكتفين بكلمات الوعظ والإرشاد، إنما العالم يتصدى لمشكلات المجتمع، ويبتكر الحلول، التي تخلصه من كربه، وتنجيه من ورطته.

                  يقول، رحمه الله: "وإذا قص علينا التاريخ أن فريقا من أهل العلم قضوا حياتهم في بحث المسائل العلمية البحتة، فقد قص علينا أن أمة من عظمائهم كانوا ينظرون في الشؤون العامة، ويمثلون السيرة التي تكسو صاحبها جلالة، وترفع له بين الخلائق ذكرا.

                  كان أهل العلم يوجـهـون هممهم إلى الوسـائل، التي تقي الأمة ممن يبغونها الأذى، فهذا أبو بكر بن العربي [4] قاضي أشبيلية [5] رأى [ ص: 162 ] ناحية من سور أشبيلية محتاجة إلى إصلاح ولم يكن في الخزانة مال متوفر يقوم بسـدادها، ففرض على الناس التبرع بجلود ضـحاياهم، وكان ذلك في عيد أضحى، فأحضـروها وصرفت أثمانـها في إصلاح تلك الناحية المتهدمة، وكان محمد بن عبد الله بن يحي الليثي [6] قـاضـي قرطبة كثيرا ما كان يخرج إلى الثغور ويتصـرف في إصـلاح ما وهى منها حتى مات في بعض الحصون المجاورة لطليطلة" [7] [8] .

                  فالعلماء هم الأمناء على الأمة، ويلزمهم من مقتضى الأمانة المشاركة الفعالة، والجهود الاجتماعية البناءة لإصلاح العلل وسد الخلل، فليست دعوتهم كلاما واقتصارا على الخطابة القولية، إنما دعوتهم مشاركة فعالة ونزول من على المنبر، واندماج في المجتمع، والتحام بالأمة ومعاناتها، وسد لحاجاتها وتلبية لمطالبها. [ ص: 163 ]

                  فالعلماء يقومون بواجب التعاون مع أصناف المجتمع بلا استثناء أحد، فهم يتعاونون مع الجاهلين تعليما، والعوام وعظا، والغافلين تذكيرا، والضعفاء تقـوية، والمحرومـين إعطاء، والفقراء إغناء، وهكذا يتعاون العلماء مع جميع أبناء المجتمع.

                  "فمن التعاون على الدين في هذا العصر أن ينهض المسلمون نهضة صادقة. فيبسطوا أيديهم بالبذل في سبيل إنشاء مدارس ومستشفيات وملاجئ تغني عن تلك المبـاني المفتوحـة لإغواء الغافلين؛ ومن التعاون على حفظ الدين أن ينشط العلماء للإرشاد فيطلقوا ألسنتهم وأقلامهم في نصـح من في قلوبـهم بقية من خير، بأن لا يرسلوا أبناءهم إلى تلك المدارس التي لو غفـل عنها الناس اليـوم غفلتهم عنها بالأمس لطوى بساط الدين طي السجل للكتاب" [9] .

                  فالعلماء من منطلق تعاونهم ينظرون في الظواهر السلبية التي تتفشى في المجتمع، ويقفون لها بالمرصاد، ولا بد للعالم من ابتكار في دعوته، وعدم الوقوف على وسائل بعينها والجمود على طرق بذاتها. [ ص: 164 ]

                  -

                  التالي السابق


                  الخدمات العلمية