الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                  المطلب الثالث: مقياس عظمة الحياة عند المصلحين:

                  عظمة الحياة الإنسانية بقدر ما فيها من تجارب، ووقائع، وقضايا، وأحداث، وشـؤون، وأمور، فكل هذا يشكل ملامح الحياة، ويضع المعالم العامة لها.

                  وعظمة الإنسان بقدر تجاربه وخبراته وعلاقاته بغيره، وإنجازاته التي حققها من خلال خبراته بالحياة، واحتكاكه بالناس.

                  أما الإنسـان الذي يسـلم نفسـه للدعـة، ويـؤثر الراحـة، ويبتعـد عن الحياة بما فيها من اضطرابات وتغيرات وتقلبات، ويرضى أن ينسحب من الدنيا وهو على أرضها، ويقدم استقالته للحياة وهو على قيدها، فهذا إنسان عديم القيمة، لا وزن له، ولا معيار حقيقي يقاس به، فليس له ذكر، ولا توجد له بصمات، ولا تقدر الأجيال له موقفا، ولا يعرفون له تضحية، ولا يحفظون له ألما وتعبا.

                  وحياة الإمام، رحمه الله، حافلة بالوقائع والتجارب والأقضية، التي اكتسب منها الخبرات وأفاد منها الفوائد، وجنى منها الثمرات، وانعكست هذه الخبرات على رسائله، وكانت ملمحا مهما من ملامح تفكيره في هذه الرسالة، ويمكن القول: إن من دواعي تميز كتابته خبرته بالحياة، ودرايته بشؤونها، وإلمامه بأحوالها، ومعرفته بالناس وأصنافهم وطبائع نفوسهم المعرفة الجيدة. [ ص: 69 ]

                  - أثر السفر والرحلات:

                  السفر والرحلات يكسب الشخصية مهارات، ويعطيها خبرات، وتفيد منها ثقافات عدة، وتؤدي الرحلات إلى التعرف على الناس من خلال الاحتكاك بهم والتعامل معهم، وقد ظهرت المعرفة الجيدة للناس من خلال كتابات الإمام، رحمه الله، وهذه المعرفة الجيدة من مصادرها السفر والرحلات التي كان لها جد الأثر في تكوين الشخصية الإصلاحية للإمام، رحمه الله.

                  فقد كثرت رحلاته، وتنقلاته بين بلدان العالم الإسلامي، وكان له في كل بلد بصمة إصلاحية، ومشاركات فعالة في تحقيق النهضة الشاملة.

                  وقد كثرت زياراته للدول الغربية وتعرفه على أوجه النهضة فيها، وتأثره بالتقدم المادي والحضاري بها، وقد ضمن في رسائل الإصـلاح مشـاهداته في هذه الدول، ودعا إلى الأخذ بأساليب التقدم المادي من أي جهة ومن أي مكان.

                  - أثر المشاهدات الخاصة:

                  الوقائع والمشاهدات الخاصة تصبغ بالصبغة المنهجية، وتوظف في إطارها السليم، وتخدم الجانب العلمي في زاوية بعينها، وقد ذكر الإمام مشاهدات خاصة له، وظفها التوظيف السليم في رسائل الإصلاح.

                  يقول: "ساقتني صروف [1] الليالي إلى ملاقاة طائفة من الملاحدة في تونس وفي الأستانة، وفي الشام وفي ألمانيا وفي مصر، فرأيت هذه الطوائف تتشابه في أمور يبعد أن يكون تواردهم عليها من قبيل المصادفة، وإنما هي [ ص: 70 ] طبائع لما تواطأت عليه قلوبهم من جحود لآيات الله، وإنكار لدينه الحنيف، وها أنذا أتحدث عن شيء من هذه الطبائع التي لا تجتمع في شخص إلا أن يكون قلبه مصابا بعلة الجحود" [2] .

                  فهو يتكلم في هذه المشاهدة عن اتحاد طبائع الملحدين وإن اختلفت بلادهم ولغاتهم ومستوياتهم، وقد تأكد له ذلك من خلال من لاقاهم من الملحدين في كثير من البلاد العربية والغربية.

                  ويقول في مشاهدة أخرى: "وأذكر بهذه المناسبة أن ببلاد الجزائر قبرا عليه بناء يقال إنه قبر خالد بن سنان [3] ، ويجتمع الناس لزيارته في اليوم السادس والعشرين من شهر رمضان، وشهدت الاجتماع به في بعض السنين، ورأيت هنالك بدعا تقام حول القبر، وعسى أن يكون أهل العلم قد قاوموها، وليس لهم من أثر على أن هذا قبر خالد بن سنان سوي ما شاع هنالك من أن بعض الصالحين أخبر بذلك" [4] .

                  فهو يحذر من تعظيم القبور، وإقامة البدع حولها، والاعتقاد في أصحابها، ويبين أن قبورا منسوبة لناس بأعينهم قائمة نسبتها على إشاعات وحكايات ليست من الحقيقة في شيء. [ ص: 71 ]

                  فقد وظف الإمام، رحمه الله، مشاهداته في البلاد، التي سافر إليها في مجال الدعوة ترغيبا في أمر وترهيبا من أمر، وهذا يجلي بعض مصادر المعرفة للإمام، وأرى أنها كما يلي:

                  - معارفه من الدول العربية والغربية التي سافر إليها.

                  - معارفه من تجـاربه مع الناس واحتـكاكه بهم، وخبرته بكيفية التعامل معهم.

                  - معارفه من مشاهداته للأماكن، وزياراته للمواقع المختلفة.

                  - معارفه من لقاءاته بأصحاب الأفكار والمذاهب المختلفة.

                  فالإمام، رحمه الله، لم يكن يترك مصدرا للمعرفة إلا وأفاد منه، ويبقى مخزونا فكريا عنده يستدعيه عند الحاجة إليه في كتاباته الإصلاحية.

                  ولهذا أيضا يمكن القول: إن الإمام عانى الفكرة قبل أن يكتبها، وعاش المبدأ قبل أن يسـطره، ومر بالتجارب التي أهلته أن يكتب الأمور الكبيرة، وأن يضع الملامـح العظيمة، ولا يشـعر القـارئ أن الكاتب بعيد عما كتب، أو أنه يكتب من برج عال أو يحلق تحليقا أدبيا في سماء الفكرة بعيدا عن الواقع بضغوطه وآلامه وأهواله، فهذا كله بعيد عن الإمام؛ إنما القارئ يستشعر عظمة هذا الكاتب، ومدى عظمة حياته الحافلة بالعطاء والممتلئة بالتجارب الثرية، وبالدروس والعظات الغنية، التي انعكست على مؤلفاته، ولمسها القارئ في كتاباته. [ ص: 72 ]

                  التالي السابق


                  الخدمات العلمية