الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                  المبحث الثاني

                  الخصائص الواقعية للعالم المصلح

                  - المطلب الأول: الرسوخ في معرفة الناس:

                  التعامل مع الناس يحتاج إلى علم بأحوالهم، ووعي بطباعهم، وإدراك بتنوعهم واختلافهم، قال تعالى:

                  ( الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم إن ربك واسع المغفرة هو أعلم بكم إذ أنشأكم من الأرض وإذ أنتم أجنة في بطون أمهاتكم فلا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى ) (النجم:32).

                  أي "هو بصير بكم، عليم بأحوالكم وأفعالكم وأقوالكم، التي ستصدر عنكم، وتقع منكم حيث أنشأ أباكم آدم من الأرض واستخرج ذريته، من صلبه أمثال الذر" [1] .

                  قال ابن القيم: "إن الله سبحانه خلق آدم من قبضة قبضها من جميع الأرض، والأرض فيها الطيب والخبيث، والسهل والحزن، والكريم [ ص: 152 ] واللئيم، فعلم سبحانه أن في ظهره من لا يصلح لمساكنته في داره، فأنزله إلى دار استخرج فيها الطيب والخبيث من صلبه، ثم ميزهم سبحانه بدارين فجعل الطيبـين أهل جواره ومساكنته في داره، وجعل الخبيثين أهل دار الشقاء، دار الخبثاء" [2] .

                  والمصلح يتمتع بموهبة العلم بالناس، وهذا العلم يعطي دلالة واضحة على كثرة الاحتكاكات وخوض التجارب، وجني الفوائد والثمرات من خلال العلاقات مع الناس، والمعرفة الجيدة بهم.

                  "ولا يستقيم النظر في الوقائع من تلك الناحية إلا لمن يتصل بالناس ويرسخ في معرفة أحوال المجتمع، وكيف يدري هذه الأحوال من هو غائب عنها، بعيد من مصادرها ومواردها؟ [3] .

                  فالتعامل مع الناس علم أحاط به الإمام وسطره في رسائل الإصلاح، وفهم الإمام للناس جعله يبين أنواعا لا يدركها إلا أصحاب البصيرة، والرؤية الدقيقة.

                  فعلم النفس البشـرية علم عزيز لا يدركه إلا أهل الخبرة والدراية، وقد سطر الإمـام في "رسائل الإصلاح" ما يؤكد تماما علمه بطبائع النفوس البشرية. [ ص: 153 ]

                  "وينتفع الرجـل من دهائه عند لقـاء الطبقات المختـلفة، يزن عقول من يلاقونه، ويحس ما تكن صدورهم وتنـزع إليه نفوسـهم، فيصاحب الناس ويشهـد مجالسهم وهو على بصـيرة مما وراء ألسنتـهم من عقول وسرائر وعواطف، فيتيسر له أن يسايرهم إلا أن ينحرفوا عن الرشـد، ويتحاشى ما يؤلمهم إلا أن يتألموا من صوت الحق، ومراعاة عقول الناس وطباعهم ونزعاتهم فيما لا يعقد حقا ولا يقيم باطلا مظهر من مظاهر الإنسانية المهذبة" [4] .

                  وهذا الكلام من الإمام يعطي الدلالة الواضحة على تميز العلم بما عند الناس من عقول، وأنها تتطلب تعاملا خاصا وأسلوبا مناسبا لكل عقل ولكل فهم، وهذا لا يطيقه إلا الأكابر، ولا يتمكن منه إلا أصحاب الصبر الجميل والنفس الطويل، فالناس عندهم تفاوت في عقولهم وأفهامهم؛ وأن يستوعب جميع العقول والأفهام رجل واحد فهذا الاستيعاب دلالة على كماله وعلى قدراته ومواهبه، حيث التزم بالصبر مع كل فرد، وتعامل مع كل شخص على حسبه ومقدار فهمه. [ ص: 154 ]

                  التالي السابق


                  الخدمات العلمية