الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                  المبحث الثاني

                  التأثير في طريقة عرض المقالات

                  في رسائل الإصلاح، الجزء الأول

                  - المطلب الأول: حسن الابتداء وحسن الانتهاء من الموضوع:

                  المدخل للموضوع من الناحية العلمية هو باب الحكم عليه وسبب الإقبال على متابعته إلى نهايته، بل إن المدخل للموضوع هو عنوان صاحبه، فكاتب الموضوع إن كان مدخله إليه مدخلا جيدا كان دلالة على سعة أفقه ونضج عقله، وإن كان بخلاف ذلك دل على ضيق أفقه ومحدودية إمكاناته.

                  والمدخل الجيد للموضوع يكون مستوعبا المحاور الفكرية له ومستجمعا المنطلقات العلمية لكل معالجة فيه.

                  والمدخل الجيد يكون منصبا في جمـع المتناثر وتوحيد المتفرق، ولم الشتات في أسلوب بديع وصياغة سليمة، وقدرة متميزة على الجمع والتوفيق بلا إشعار للقارئ بتكلف أو تصنع أو تشبع بلا مضمون، أو ادعاء بلا دليل.

                  ففي مدخل الإمام لموضوعه نجد هذا كله متوفرا، يبلغ العارفون بسببه حد الانبهار بالإمام والانجذاب إلى علمه من خلال مدخله للموضـوع، هذا المدخل الثري بالفهوم الدقيقة، والغني بالأفكار السـديدة، والممتلئ بكنوز العلم والمعرفة النفيسة. [ ص: 112 ]

                  في مدخله لموضوع صدق العزيمة.. أو قوة الإرادة، يقول:

                  "يخطر في النفس أمر فتثق بأنه حق أو نافع، فتحرص على حصوله، فإذا أضافت إلى هذا الحرص النظر في وسيلة بلوغها إياه، وبدا لها أنه في حدود استطاعتها، فسرعان ما تقبل عليه وتبذل سعيها للوصول إليه، وذلك ما نسميه بالعزم أو الإرادة.

                  فما يخطر في النفس مما تعتقد حقيقته أو نفعه، وتود أن يكون حاصلا لديها ثـم لا تسـعى له سعيه، ولا تضع لبلوغـه خطة، فإنما هو التمني الذي لا يفرق بين المحـال والمستطـاع، والذي يخطر في نفوس القاعدين كما يخطر في نفوس المجاهدين، وما مثله إلا كمثل الشـرر الذي يلمع حـول النار ثم يتصاعد هباء" [1] .

                  فهذا المدخل الذي فيه تشويق لمعرفة الموضوع، وفيه تحديد للمفهوم، وتفريق بينه وبين غيره، وذكر الحالة التي عليها أصحاب الخيال الساذج والتصور القاصر، فيه دلالة على القوة في التأثير من خلال العلم والفقه وليس من خلال الدعاوى والتبلغ بالبلاغة.

                  وفي مدخله لموضوع: "سماحة الإسلام في معاملة غير المسلمين" يقول: "من يدرس أصول الإسلام يجد، ويذهب في تعرف روح تشريعه مذاهب بعيدة المدى، يدرك دون أن يأخذه ريب أنه دين نزل من السماء ليصرف بهدايته في أرجاء المعمورة، ويعلم الأمم أرقى نظم الاجتماع، وقد ارتفعت في الشرق [ ص: 113 ] والغرب رايته، يوم تولى أمره زعماء لبسوا من آدابه برودا سنية، وتحروا في الدعوة إليه سبيلا سوية" [2] .

                  والإمام يقول ذلك بعد رحلة علمية، وتجارب نافعة، ومشاهدات رائعة، فكتابته على وفق قوله، وعمله على وفق علمه. فقد درس أصول الإسلام بجد وتعرف روح تشريعه، ووصل من خلال ذلك الثقة فيه، وفي قدرته على الرقم بالشعوب والأمم.

                  وفي مدخله لموضوع "الدهاء والاستقامة" يقول: "خصلتان يبلغ بهما الرجل أن يكون عظيما، وحق لمن استولى على الأمد الأقصى منهما أن يكون زعيما: هما بعد النظر في استكشاف غوامض الأمور، وذلك ما نسميه الدهاء أو الكياسة، والسير في سبيل الرشد بقلب سليم، وذلك ما نسميه الاستقامة أو التقوى" [3] .

                  فالمدخل المتمثل في تحقيق العظمة من خلال خصلتين يؤثر في القارئ ويدعوه إلى العمل بهاتين الخصلتين، وتتبعهما، والعلم الكامل بما فيهما.

                  فجودة الفكرة عند الإمام تجعله يصونها من سوء العرض، ويحميها من التلبيس بغيرها من خلال الاعتناء بها في المدخل إليها، وهذا من دلائل حرص الإمام على تثبيت فكرة الموضوع في الأذهان، وعلى أن يكون هذا الموضوع تتلقاه الأجيال بالقبول في كل زمان ومكان، فهو لا يكتب لفترة زمنية بعينها، [ ص: 114 ] ولا يتعـامل مع فكرة طـارئة تعيش وقتا وتنتهـي بعده، ويتأثر بـها البعض تأثرا سريعا وينتهي الأمر إلى موتـها وتلاشيها، إنمـا يتعامل مع فكرة خـالدة يدرسها دراسـة جيدة، ويتأمل فيها، ويهتم بها، وينظر كيف يقوم بعرضها، وهذا من شأن الصادقين مع الله تعالى، وأصحاب الرسالات والمبادئ.

                  ولهذا قيض الله لأفكار الإمام في كل زمان من يدرسها ويحللها ويعرضها للناس، وهذا من دلائل صدقه مع الله، فأفكار الصادقين لا تموت، وإنما تجد من يتلقاها ويتدارسها، ويعرضها للناس.

                  - جودة ختام الموضوع:

                  تتابع أفكار الموضوع وتتوالى المعالجة حتى يصل الموضوع إلى ختامه، فيكون الختام هو الدلالة على الوصول بالموضوع إلى أعلى درجات التوفيق بين الإقناع العقلي والتأثير الوجداني، فالختام هو مجمع الأفكار وملتقى الفهوم، وهو الذي يقع تحته مجمل الكلام ومنتهى البيان، وهو الذي يحرص فيه الكاتب على العبارة المحددة والأسلوب المباشر الذي يصل سريعا إلى الفهوم وتحيط به العقول، فلم يعد الأمر محتاجا إلى مزيد من بسط المعلومة بأكثر من أسلوب، وتقريب المفهوم بأكثر من مثال، إنما الأمر في الختام يكون في الكلمات القاطعة والعبارات الفاصلة والتي لا تعني إلا أمرا واحدا، ولا تجلي إلا مفهوما واحدا، والخاتمة تخلو تماما من الشواهد والنماذج والأمثلة والنقول المختلفة، إنما هي فقط خلاصة الكلام، وزبد الأفكار، وصفوة المقال. [ ص: 115 ]

                  وهذا ما كان في وعي الإمام، رحمه الله، في "رسائل الإصلاح"، يقول في ختام موضوع الشجاعة وأثرها في عظمة الأمم:

                  "وخلاصة الحديث أن الأمة لا تحتفـظ بعظمتـها إلا أن تسـود فيها الشجاعة، وأن عظمتها على قدر من تخفق عليهم رايتها من ذوي البطولة، فكان حقا علينا أن نعنى في تربية أبنائنا بخلق الشجاعة الموصولة بالحكمة، حتى يروا العظائم صغائر، ويقتحموا الخطوب بعزائم لا يعرف التردد ولا الوهن طريقها".

                  فمن مقتضيات التخلق بخلق الشجاعة في ختام موضوع الإمام، رحمه الله، أنه سبيل احتفاظ الأمة بعظمتها، وأن السبيل إليه التربية عليه، وتخريج جيل شجاع ينهض بالأمة في جميع المجالات، وأن الشجاعة مقيدة بالحكمة، فلا تعني تسرعا ولا تهورا.

                  ويقول في ختام موضوع الغيرة على الحقائق والمصالح:

                  "وفصل القول في هذا أن الغيرة على الحق والمصلحة ما غلبت على نفوس الأمة إلا استقامت سيرتها، وعلت في الأمم سمعتها، وحسنت في كلتا الحياتين عاقبتها، ولا حق أجلى مما يدعو إليه الخلاق العليم، ولا مصلحة أعظم مما تهدي إليه أصول شرعه الحكيم، فإذا لم نرسم في نفوس نشئنا الغيرة على حقائق الدين، وما أرشد إليه من مصالح وما سنه من آداب ضلوا عن أسمى الحقائق، وأضاعوا أكبر المصالح، وتجردوا من أسنى الآداب، وهل غير هذه العاقبة من خسران مبين؟" [4] . [ ص: 116 ]

                  فالإمام يجعل الغيرة على الحق سبيل استقامة سيرة الأمة، وأن استقامة السيرة لا يحققه إلا الغيرة، فليس أمام الشعوب إلا أن تتصف بهذه الصفة الحميدة لتحقيق المصلحة التي هدت إليها أصول الشرعة، والإمام يجعل رسم الغيرة في نفوس النشء سبيل الوصول إلى أسمى الحقائق، والتجرد منها خسران مبين.

                  وفى مقالة المروءة ومظاهرها الصادقة، يقول:

                  "قد رأينا كيف انتظمت المروءة أخلاقا سنية، وآدابا مضيئة، وعرفنا أن رسوخ هذه الأخلاق والآداب في النفس، يحتاج إلى صبر ومجاهدة ودقة ملاحظة وسلامة ذوق" [5] .

                  فالإمام يبين في ختام موضوعه حاجة الأخلاق إلى بعضها، وتثبيت بعضها ببعضها، وثباتها في شخص الناس بمجموعها، وهذا يجعل الأخلاق جميعها محتاجا إليها ومرغوبا فيها.

                  والإمام، رحمه الله، يختم موضوعه بهذا الختام مستخدما هذا الأسلوب "وخلاصة الحديث"؛ و"فصل المقال"؛ و"صفوة الحديث"؛ و"خلاصة المقال"؛ " قد رأينا كيف.."؛ وهذا كله من جودة الختام ومن ثقة الإمام في أنه أعطى الموضوع حقه، ووصل به إلى تمامه وكماله، ووفى أغراضه، وقام باستيعابه من كل جوانبه. [ ص: 117 ]

                  التالي السابق


                  الخدمات العلمية