الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                  - المطلب الثاني: أخلاقه في تولي المنصب:

                  الأخلاق ركيزة كبرى من ركائز الشخصية الإصلاحية، وعماد أساسي من عمد استقرارها على مبادئها وقيمها في كل مراحل حياتها.

                  فالمبادئ والقيم عند الشخصية الإصلاحية معلم من معالم كل مرحلة، والتمسك بها من أوجب الواجبات, ومن دلائل ذلك:

                  - التحرر من عبودية المنصب:

                  المنصب له شهوته، التي تجذب أصحابه إلى الدنيا ومتطلباتها، وذلك بتعلق القلب الزائد عن الحد، والافتتان بالكرسي، وشهوة الرياسة، وحب الجاه، وقل من يسلم من آفات المنصب، ويتخلص من عبوديته.

                  والإمام، رحمه الله، لم يفتنه المنصب، ولم يكن حريصا عليه، بل ما دار في ذهنه أن يتولى مشيخة الأزهر، وما سعى إلى هذا المنصب بأي حال، فكيف إذا تولاه يكون حريصا عليه متمسكا به؟!، إنما كان حريصا على أن يؤدي رسالة من خلاله، ووجد أنه في حالة عدم تمكنه، وعجزه وهو في منصبه أن الأولى أن يتقدم باستقالته، وهذا من تمسكه بالمبادئ، وحرصه على سيادتها وانتشارها.

                  يقول الدكتور عبد الحليم محمود: "ولأنه لم يكن له في شهوات المنصب من حظ، فإنه كان دائما يحتفظ باستقالته في جيبه" [1] . [ ص: 77 ]

                  "ويذكر أصدقاؤه أنه استقال من منصبه الكبير عدة مرات، وأصر في آخر مرة على ترك المنصب بسبب توحيد القضاء، لأنه كان من رأيه أن يندمج القضاء الأهلي في القضاء الشرعي وليس العكس، لأن الشريعة الإسلامية ينبغي أن تكون هي المصدر الأساسي للقوانين. ويذكر آخرون أنه استقال بسبب ضعف صحته وأعباء كهولته" [2] .

                  وسواء كانت استقالته لتمسكه برأيه، وحرصه أن تكون المرجعية للشريعة الإسلامية أم كانت استقالته لمرضه وأعباء كهولته، فإن الإمام، رحمه الله، ما كان حريصا على المنصب، وما كان مضـيعا دينه بسـببه، إنما كان المنصب وسيلة لغاية، ولم يكن غاية في حد ذاته.

                  - عفة الإمام وزهده:

                  من مواقفه في منصبه عدم التربح من ورائه والإفادة المالية منه، وأيضا عدم اتكائه عليه، ورفعه فوق حده، وإعطائه أكثر من حجمه، فيترتب على هذا تحول المنصب إلى إله يعبد من دون الله، وتذهب في سبيله كرامته، وتضيع هويته كعالم ومرب وفقيه.

                  يقـول الدكـتـور عبد الحـليم محمـود عن الإمـام محمد الخضـر حسـين: "وحينما تولى مشيخة الأزهر لم يغير شيئا من عاداته، كان على [ ص: 78 ] اسـتـعـداد كامـل ودائـم لأن يعيـش عـلى كسـرة من الخـبز، وكـوب من اللبن" [3] .

                  "ومهما يكن من أمر فإنه، رحمه الله، لم يكن أسيرا للمنصب يوما من الأيام، فقد كانت عفته وعفافه مضرب الأمثال، وكثيرا ما قال: يكفيني كوب لبن وكسرة خبز، وعلى الدنيا بعدها العفاء... استقال الشيخ من منصبه في الثاني من جمادى الأولى سنة 1373هـ، الموافق السابع من يناير سنة 1954م" [4] .

                  فالإمام يضرب أروع الأمثلة في الزهد في المنصب، فبالرغم من امتلاكه المنصب إلا أن قلبه لم يكن متعلقا به، وبالرغـم من وجـود أسـباب الثراء إلا أنه كان زاهدا، وحقيقة الزهد ليست مع القلة إنما هي مع الكثرة، وليست مع الفقر، إنما مع الامتلاك، فقد كان الإمام، رحمه الله، من أهل العفـة والزهـد بحـق، راضيا بالقليل، قانعا باليسـير، ليس متطلعا لشيء دنيوي، أو لحظ نفسي، أو عطاء مادي. [ ص: 79 ]

                  التالي السابق


                  الخدمات العلمية