الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                  - المطلب الثاني: توظيف المنصب في الإصلاح:

                  المنصب له الأثر الكبير في التغيير والإصلاح، فالنظرة إليه تكون من خلال توظيفه في خدمة الدعوة الإسلامية وتلبية حاجاتها، وتحقيق أغراضها، ومن خلال قضاء الحاجات، وتلبية المطالب، وتيسير الأمور، وتذليل الصعوبات، ومن خلال إعطاء المنصب حقه، والقيام بالرسالة فيه على خير ما يكون وتأدية الأمانة بكل مضامينها وبجميع أبعادها.

                  ومن خلال وقوف مصلح على مؤسسة كبيرة مثل الأزهر تتغير لموقفها أوضاع، وتتعدل نظم، وتتحدد رؤى، وترسى معالم، وتصبغ ملامح، يتحقق للرسالة الإصلاحية نجاحات عظيمة.

                  وكان لزاما أن يكون المصلح على مستوى الرسالة، علما وعملا، ووعيا وتطبيقا، وفكرة وتنفيذا، وأن يكون توليه المنصب مسهما في رسالته [ ص: 85 ] الإصلاحية وليس عائقا ولا هادما جهوده السابقة، وبهذا يكون المشروع للنهضة ناجحا بكل المقاييس.

                  ولقد كان وعي الإمام، رحمه الله، بهذه الحقائق كبيرا، فعمل على تنفيذهـا في فترة توليه مشيخـة الأزهر، وزاد إليهـا الكثير، وأضاف إليها من خـبراته وتجاربه، وأبقى عـليها بصماته، التي لا يمحوها الزمان ولا تنساها الأجيال.

                  وهـذا يجلي أن رؤاه الإصـلاحـية في رسـالتـه لم تكن مـن فـراغ، إنما كانت نتيجة احتكاكات وتجارب، وخبرات طويلة أمضاها واكتسبها من واقع الحياة.

                  وكما كانت مواقفه في حياته العملية كانت مواقفه الثابتة الرائعة في مناصبه، التي تولاها بصفة رسمية، فالعالم بحق ما هو إلا موقف يسطره التاريخ بمداد من ذهب على صفحات من نور، وكان الإمام من هؤلاء العلماء أصحاب المواقف.

                  فقد "أعطى المنصب حقه من الرعاية والتكريم، فما كان يتطامن أمام حاكم، ولا كان يجامل على حساب عقيدته أو دينه، وكان هذا شـأنه منذ نشـأته - ومما هو مأثور عنه قبل ولايته هذا المنصب الكبير، أن أبا رقيبة، رئيس الجمهورية التونسية، زار القاهرة وأرسل السفير التونسي إلى الشـيخ يطلب منه الانتقال إلى رئيس الجمهورية لزيارته، فقال له: ولماذا لا يأتي رئيـس الجـمهورية لزيـارتي؟ والواقـع أنه كانت [ ص: 86 ] بينهما مودة، ولكن الشـيخ أخذ عليه أنه لم يلتزم في حـكمه التشـريع الإسـلامي الدقيق" [1] .

                  فالإمام في مثل هذا التصرف يريد أن يعطي رسـالة للحاكم، مضمونها ما يلي:

                  - إبراز مكانة العالم، وعزته، وشموخه، وأن العلم يؤتى إليه، ويحرص على لقاء أهله.

                  - إبراز السلطان الحقيقي وهو سلطان العلم وليس سلطان الحكم.

                  فسلطان العلم هو السلطان، وهو الذي له امتلاكه للنفوس، وموقعه الفريد في القلوب، ولا ينازع موقع العالم في القلب أحد مهما كانت مكانته، ومهما بلغت درجته.

                  - وعي الإمام بسلطانه، وإدراكه مكانته، فهو يمثل كل عالم، ويعطي القدوة لكل مصلح، فلا يقبل منه في هذا الموقف إلا مثل هذا التصرف.

                  وقد يقول البعض: وماذا في إكرام الضيف والذهاب إليه؟!، وماذا في استقبال القادم والترحاب به؟! وماذا يحدث لو ذهب العـالم إلى الحاكم تعظيما لمكانته وخضوعا شرعيا له؟!

                  وهذا مقبول بلا شك في التعامل مع الحكام، الذين تلزم طاعتهم، ويحرم الخروج عليهم، لكن في مواقف بعينها يكون من الفقه إظهار المواقف للرعية؛ لتتضح الأمور عندهم؛ وينتفي أن يكون العلماء من الموالين [ ص: 87 ] للطـاغـين؛ وبهذا لا ينطـبـع في أذهـان العـامة أن العالم فرط في دينه، وميع رسـالته، فإنه إذا سـقـط جـدار العالم, فإن النكبة بسـقـوطه عظيمة، وماذا يتبقى للأمة إذا خذلت في علمائها ومصلحيها؟!

                  - الامتناع من الذهاب إلى الحكام ليس لعلة شخصية، إنما لأسباب جوهرية، ودواع موضوعية، فبين العالم والحاكم الدين، فإن قدر الحاكم الدين، وطبق شريعة الإسلام، وكان حريصا على سياسة رعيته بأصول الشريعة، فإن طاعته من طاعة الله، ومعصيته من معصية الله.

                  فمن مقومات الشخصية الإصلاحية للإمام تمسكه بالمبادئ في المناصب وعدم تنازله عنها أو تمييعه لها.

                  فالالتزام بتعاليم الإسلام واجب كل إنسان، وإلزام الآخرين بتعاليم الإسلام شأن المصلحين، الذين لا يعفون أحدا من مسؤولية، إنما يتعاملون بالإسـلام مع الحـاكم والخـادم، ويظهرون أمـام الجميع بعزة العالم وهيبة المصـلح، الذي لا يقبل الدنية في دينه، وهكذا كان الإمام محمد الخضر حسين، رحمه الله.

                  التالي السابق


                  الخدمات العلمية