الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            معلومات الكتاب

            ظاهرة التطرف والعنف (من مواجهة الآثار إلى معالجة الأسباب) [الجزء الأول]

            نخبة من الباحثين

            - الانغلاق الفكري:

            من الاستبداد ما هو فكري، وهو المتمثل في أن يمنع الإنسان بشكل أو آخر من أشكال المنع من التفكير الحر، وأن تملى عليه وجهة نظر واحدة دون أن تتاح له الفرصة في أن يطلع على وجهة نظر أخرى بله أن تتاح له الفرصة ليعبر عن وجهة من تلقاء ذاته، فهو إذن حجر على التفكير المنفتح الحر، وإلزام بالوجهة الواحدة والرأي الواحد، ولعل أكثر الشعـارات تعبيرا عن هـذا اللون من الاسـتبداد هو ما حكاه القرآن الكريم عن فرعون مستبدا بالرأي على قومه في قوله تعالى: ( قال فرعون ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد ) ( غافر:29).

            وللاستبداد الفكري مظاهر متعددة، منها التزام المعلمين في تعليمهم أسلوب التلقين الخالص، وذلك حينمـا تحشى الرؤوس بكم من المعلومات على سبيل الحفظ، وتصادر كل فرصة للتفكير فيما يقع تلقينه للتحليل والتمحيص والنقد والمقارنة. ومنها أن يقدم للمتعلم الرأي الواحد في المسائل [ ص: 34 ] محل التعليم، وتحجب عنه كل الآراء الأخرى في ذات المسائل. ومنها أن يقدم الرأي الواحـد على أنه هو الحق الذي لا حق غيره، وأن كل ما سواه هو الباطل الذي لا يحتمل صوابا، وذلك ليس عن تفحص ودرس ونقد، وإنمـا عن إلغـاء ورفض ومصادرة بصفة مبدئية. وكل هذه الأنواع تلتقي عند الحجر عـلى العقـل أن يكون له نظر حر، وتقييده بالوجهة الواحدة التي ترسم له سلـفا، والحجر عليه أن يتجاوز بالنظر ما هو مرسوم له وموجه إليه. وكلها تندرج تحت الاستبداد الفكري، وهي تفضي إلى التطرف بمسالك متعددة.

            فالاستبداد الفكري من شأنه أن يربي الفكر على الرأي الواحد، وهو الرأي الذي وقع تلقينه إياه، والذي أري أنه هو الرأي الحق، وغيره هو الباطل، وحينئذ فإنه سيقف موقف الرفض لكل رأي مخالف يرد عليه، دون أن تكون له القدرة على الحوار فيه، أو مقارنته بغيره، أو تمحيصـه ونقده، ودون أن تكون له القدرة أيضا على مراجعة ما تقلده من رأي، وعلى تصحيح ما عسى أن يكون قد داخله من نقص أو خطأ، بل سيكون متشبثا به كما ورد عليه، وكما أريه ولقنه.

            والآراء، حـتى ما كان منها حـكما دينيا، ليست مبنية عـلى اليقـين المطلق إلا ما كان مندرجا ضمن ما هو معلوم من الدين بالضرورة، وهي الأقل من بين أحكام الدين، أما أكثر الأحـكام فهي ظنية حاصلة [ ص: 35 ] بالاجتهاد، وهي لذلك قابلة لأن يداخلها الخطأ في الفهم، وذلك بالإضافة إلى أن الحكم الواحد قد يكون صحيحـا في ظرف من الظروف، ثم يقتضي ظرف آخر لاحق عليه أن يقع عليه تغيير فيحل محـله حكم آخر، بناء على قاعدة أن الأحكام تتغير بتغير الأحوال، كما شرحه ابن القيم [1] .

            وحينما يبقى الفكر متشبثا بالرأي الذي أشربه بالاسـتبداد عليه، رافضا لكل ما سـواه، فإن تشبثه هـذا قد يفضي به إلى التشـبث بما هو خطأ من حيث الأصل، أو التشبث بما كان صحيحا وأصبح بتغير الظروف خطأ، ويصبح ذلك إذن ضربا من التطرف، في التصورات الدينية، يتبعها تطرف في الممارسات السـلوكية المبنية عليها، إذ التطرف كما حـددناه سالفا، هو تجاوز ما حدده الدين من حدود. ويدخل في ذلك ما يقتضي الاجتهاد تغيره من أحكام بمقتضى تغاير الأحوال، إذ لكل حكم ديني مقصد شرعي، فإذا لم يكن الحكم مؤديا إلى مقصـده، لسبب أو لآخر من الأسباب، فإن التشبث به يدخل في مدلول التطرف.

            لقد رفض الخوارج قديما التحكيم، وقالوا، كما هو معلوم: لا نحكم الرجال في دين الله، وانغلقوا على هذا المفهوم، وحجروا على أنفسهم النظر في غيره مما فيه فسحـة لأن يكون للتحكيم مجـال كما وجهت إليه آيات [ ص: 36 ] قرآنية كقولـه تعالى: ( فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها ) (النساء:35)، وحشروا أنفسهم في وجهة واحدة لا يبغون عنها حولا، وهو ما أدى بهم إلى تكفير غيرهم من سائر المسلمين، وانتهى الأمر إلى ممارسة العنف ضد المجتمع بأكمله، حاكمه ومحكومه، وذلك مظهر من مظاهر الأيلولة إلى التطرف بالاستبداد الفكري.

            وغـير بعيد مـن ذلك مـا انتهت إليـه بعض الفرق الصـوفية الـغالية، إذ يسـلم فيـها الأتباـع أنفسـهم إلى شيخـهم، فيفكر لهم، ولا يريهم إلا ما يرى، ويمنع عليهم إبداء الرأي فيما يقول ويفعل، كما يمنع عليهم الإطلاع على ما هو مخالف لما يراه هو من أراء غيره، وينتهي هذا المسلك الاستبدادي بانحرافات كثيرة في التصورات الدينية يقع فيها الشيوخ، ويلتزم بها الأتباع، وينطوون عليـها، ويتعصبون لها، ولا يرون الحـق إلا فيها، وقد تصل تلك التصورات من الانحراف إلى الاعتقاد بأن تكاليف الدين تسقط عنهم لأنهم وصلوا إلى اليقين الذي هو الغاية القصوى من كل تكليف [2] ، وناهيك بذلك تطرفا كان سببه الاستبداد الفكري.

            وفي عصرنا الحاضر توجد مدارس عقدية وفقهية تربي أتباعها على أن الحـق في الدين واحد هو الذي تلقنهم إياه من التصورات والآراء، وأن كل [ ص: 37 ] ما عدا ذلك باطل ضال لا ينبغي الإطلاع عليه والنظر فيه بله تفحصـه من أجل الاستفادة منه، فانغلقت عقولهم على الرأي الواحد، نتيجة الاستبداد عليها بحجر التوجه بالنظر إلى غيرها، وتكون من ذلك عداء أو ما يشـبه العداء لكل المذاهب الأخرى المخالفة، وفي ذلك الرأي الواحـد الذي ألزموا به جزئيات نزلت منـزلة الكليات، مثل تقصير الثياب وإطلاق اللحى، وفيها أحـكام اقتضتها ظروف معينة قبل قرون ولكنها استصحبت إلى الوقت الراهن وقد زالت ظروفها، وذلك مثل مفاهيم دار الحرب وأحـكامها، ومعاملة الكفار بالكراهية والغلظة واضطرارهم إلى أضيق الطريق، وأمثال ذلك كثير.

            ومن هذا الاستبداد الفكري نشأت مجموعات من الأتباع ركبت مركب التطرف لتبنيها أمثال تلك التصورات، ثم انتقلت في تطرفها من التصور إلى ممارسة العنف. ولعل أكثر ما يقع اليوم من عنف في العالم باسم الإسلام إنما هو ناشئ من قبل هذه الجماعات التي تربت في كنف الاستبداد الفـكري، فانتهى بـها إلى التطرف في التـصور تبعه تطرف في السلوك. إنه تطرف سببه الاستبداد بتشكيل الفكر تشكيلا منغلقا يؤدي إلى التطرف، كما يؤدي الاستـبداد ذاتـه إلى تنفيـس نفسي وتـأويل ديـني لا يفضيان إلا إلى التطرف كما سلف بيانه. وحينما تنكشف هذه الأسباب فإن العلاج لا يمكن أن يكون ناجعا إلا إذا كان علاجا لتلك الأسباب. [ ص: 38 ]

            التالي السابق


            الخدمات العلمية