الجذور الأولى للتطرف
قد لا نجانب الصواب إذا ما قلنا: إن التطرف الذي تكتوي بناره المجتمعات الإسلامية ليس وليد اليوم، وإنما هو ذو جذور ضاربة في القدم، حيث ظهرت بوادره الأولى في مجتمع النبوة. كما في الحديث، الذي يرويه "عبد الرحمن بن أبي نعم، قال: سمعت أبا سعيد الخدري يقول:
( بعث علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من اليمن بذهيبة في أديم مقروظ لم تحصل من ترابها، قال: فقسمها بين أربعة نفر: بين عيينة بن بدر، وأقرع بن حـابس، وزيد الخيل، والرابـع إما علقمة وإما عـامر بن الطفيل.. فقال رجل من أصحابه: كنا نحن أحق بهذا من هؤلاء.. قال: فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ألا تأمنوني وأنا أمين من في السماء، يأتيني خبر السماء صباحا ومساء؟! قال: فقام رجل غائر العينين، مشرف الوجنتين، ناشز الجبهة، كث اللحية، محلوق الرأس، مشمر الإزار، فقال: يا رسول الله، اتق الله.. قال: ويلك، أولسـت أحق أهل الأرض أن يتقي الله؟ قال: ثم ولى الرجـل.. قـال خالد بن الوليد: يا رسول الله، ألا أضرب عنقه؟ قال: لا، لعله أن يكون يصلي.. فقال خالد: وكم من مصل يقول بلسانه ما ليس في قلبه.. [ ص: 99 ]
قـال رسـول الله صلى الله عليه وسلم : إني لم أومر أن أنقـب عـن قـلوب الناس ولا أشق بطونهم.. قال: ثم نظر إليه وهو مقف، فقال: إنه يخرج من ضئضئ هذا قوم يتلون كتاب الله رطبا لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية ) [1] .
فانظر هنا إلى ذلك الرجل الذي جاء يغلظ القول لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثائرا على القسمة التي قسمها رسول الله... ويخبرنا الحبيب صلى الله عليه وسلم بأن بذرة الثورة والتطرف لن تقف عند هذه الحد، بل ستتلوها مواقف أخرى من قبل ناس يتلون كتاب الله تعالى رطبا، لكن ينقصهم فهم الدين وفقه مقاصده.
ومع هذا، نجد الحلم الذي قابل به رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الثورة لكون الرجل من أهل القبلة يصلي، ولم ينقب عن قلبه ولا بطنه... صلى الله عليه وسلم يرد الأمر دائما إلى نصابه حرصا منه على عدم انجرار المسلمين وراء التطرف وما ينتج عنه مما يهدد آخرتهم.
وقد يعترض معترض بأن التطرف، وما ينتج عنه، هو أمر لم يخل منه مجتمع، وليس خاصا بمجتمع بعينه، أو ديانة بعينها. وأسارع إلى الجواب أن نعـم، مع التـأكيد على أن الدين الإسـلامي إنمـا جـاء رحمـة للعالمين: ( وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين ) (الأنبياء:107)، وهو دين وسط [ ص: 100 ] وأمـتـه أمـة وسـطا: ( وكذلك جعلناكم أمة وسطا ) (البقرة:143)، فما ناقض هذين المبدأين استوجب الوقوف عنده ونبذه.
ومع مقتل الإمام عثمان بن عفان، رضي الله عنه، ستطرأ على المجتمع الإسلامي تحولات خطيرة أصابت العقل الإسلامي بعاهة استفحلت مع توالي السنين: