الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            معلومات الكتاب

                                                                                                                                            الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

                                                                                                                                            الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            مسألة : قال الشافعي رضي الله عنه : ولو سأل القود ساعة قطع إصبعه أقدته فإن ذهبت كف المجني عليه جعلت على الجاني أربعة أخماس ديتها .

                                                                                                                                            قال الماوردي : وهذا كما قال ، يجوز القصاص في الأطراف قبل اندمالها .

                                                                                                                                            وقال أبو حنيفة ، ومالك والمزني : لا يجوز أن يقتص من طرف أو جرح حتى يندمل أو يسري إلى النفس ، وبناه أبو حنيفة على أصله الذي تقدم فيه الكلام معه من أن سرايته إلى ما دون النفس موجبة لسقوط القود فيه ، احتجاجا برواية ابن جريج عن ابن الزبير عن جابر أن رجلا جرح فأراد أن يستقيد فنهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يستقاد من الجارح حتى يبرأ المجروح .

                                                                                                                                            وروى يزيد بن عياض عن أبي الزبير عن جابر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : يستأنى بالجراحات سنة ، ولأن القود أحد البدلين فلم يجز استيفاؤه قبل استقرار الجناية كالدية ، ولأن القود من الطرف قبل استقرار الجناية قد يجوز أن يسري إلى نفس الجاني قبل سرايته إلى نفس المجني عليه ، فإن جعلتموه قصاصا في النفس كان سالفا في قتل قبل استحقاقه وذلك غير جائز قصاصا إن أخذتم الدية كنتم قد جمعتم بين القصاص والدية وذلك غير جائز .

                                                                                                                                            [ ص: 168 ] ودليلنا رواية أيوب عن عمرو بن دينار عن جابر أن رجلا طعن رجلا بقرن في ركبته فأتى النبي - صلى الله عليه وسلم - يستقيد فقيل له : حتى تبرأ ، فأبى وعجل ، فاستقاد فعرجت رجله ، وبرئت رجل المستقاد منه ، فأتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : ليس لك شيء أنت أبيت فدل هذا الحديث على ثلاثة أشياء :

                                                                                                                                            أحدها : جواز تعجيل القود قبل الاندمال .

                                                                                                                                            والثاني : أن تأخيره إلى وقت الاندمال استحباب

                                                                                                                                            والثالث : جواز القود من الجناية بغير الحديد ، لأن الجناية كانت بقرن ، وهذا الحديث ذكره الدارقطني في سننه ، ولأن القود واجب بالجناية ، والاندمال عافية من الله تعالى لا توجب سقوط القود ، وسرايتها لا تمنع من استيفائه ، فوجب أن يكون استقرار الجناية على أحد الحالين غير مانع من تعجيل القود ، ولأن ما استحق فيه القود لم يلزم تأخيره كالمندمل .

                                                                                                                                            فأما استدلالهم بالخبر الأول فمحمول على الاستحباب بدليل خبرنا .

                                                                                                                                            وأما الخبر الثاني فمتروك من وجهين :

                                                                                                                                            أحدهما : ضعف راويه ، قال الدارقطني : يزيد بن عياض ضعيف متروك .

                                                                                                                                            والثاني : أن تقدير تأخيره بالسنة لا يلزم بالإجماع .

                                                                                                                                            وأما الجواب عن قياسهم على الدية فهو أن للشافعي في أخذ دية الطرف قبل اندماله قولان :

                                                                                                                                            أحدهما : قاله في كتاب " المكاتب " : لو جنى السيد على عبده المكاتب فقطع يده كان له أن يعجل أرش يده قصاصا من كتابته ، فخرجه أصحابنا قولا في جواز تعجيل الأرش قبل الاندمال ، فعلى هذا إن كان أرش الجناية أقل من دية النفس أخذ جميعها ، وإن كان أكثر من دية النفس كقطع يديه ورجليه فقد اختلف أصحابنا في أخذ ما زاد على دية النفس على وجهين حكاهما أبو حامد الإسفراييني :

                                                                                                                                            [ ص: 169 ] أحدهما : يؤخذ منه ديات الأطراف وإن كانت أربعا فوق دية النفس اعتبارا بحالة الجناية كالقود .

                                                                                                                                            والثاني : حكاه عن أبي إسحاق المروزي أنه لا يؤخذ منه أكثر من دية النفس : لجواز السراية إليها فلا يجب أكثر منها فلا يؤخذ ما يجوز أن يسترجع ، فعلى هذا القول قد بطل أصل القياس للتسوية بين الدية والقود في استيفائهما قبل الاندمال .

                                                                                                                                            والقول الثاني : وهو الصحيح المنصوص عليه في جميع كتبه والمعمول عليه عند سائر أصحابنا أنه لا يجوز أخذ الدية قبل الاندمال وإن كان القود قبله .

                                                                                                                                            والفرق بينهما : أن القود لا يسقط بما حدث بعد الجناية من اندمال أو سراية ، فجاز أن يستوفى قبل استقرارها ، ودية الطرف لا تستقر إلا بعد الاندمال ، لأنه إن قطع إصبعا أرشها عشر الدية فقد يجوز أن يشاركه في قتل المجني عليه مائة نفس ، فلا يلزم كل واحد من الجماعة من الدية إلا عشر عشرها فيحتاج إلى أن يرد على قاطع الإصبع الزيادة عليه فافترقا .

                                                                                                                                            فإن قيل : فقد يجوز أن يحدث في القود مثله ، لأنه قد يجوز أن يشركه قبل اندمال الإصبع خاطئ فتسري الجنايتان إلى نفسه فيسقط القود على العامد .

                                                                                                                                            قيل : إنما يسقط القود عن العامد في النفس إذا شاركه خاطئ بخروج النفس بعمده وخطئه ، فأما الطرف الذي تفرد العامد بأخذه فلا يسقط القود فيه بمشاركة الخاطئ له في النفس ، وصار القود في الطرف محتوم الاستحقاق .

                                                                                                                                            وأما الجواب عن قولهم : إن هذا يفضي عند السرايتين إلى السلف في القصاص فهو أن تقول : لا تخلو السرايتان بعد الجناية والقصاص من أن تتقدم سراية الجناية أو سراية القصاص ، فإن تقدمت سراية الجناية على سراية القصاص ، فقد استوفى بسراية القصاص ما وجب في سراية الجناية من القصاص ، وإن تقدمت سراية القصاص على سراية الجناية ففيه وجهان :

                                                                                                                                            أحدهما : وهو محكي عن أبي إسحاق المروزي أنها تكون قصاصا وإن تقدمت على سراية الجناية ، فلا يكون ذلك سلفا لحدوثها عن قصاص قد استوفي بعد استحقاقه ، والسلف أن يقول : اقطع يدي ليكون قصاصا من سراية الجناية لتقدمها عليه .

                                                                                                                                            [ ص: 170 ] والوجه الثاني : وهو قول أبي علي بن خيران أنها لا تكون قصاصا ، لتقدمها على سراية الجناية وتميز الطرفين عن السرايتين ، فعلى هذا يصير المجني عليه مستحقا لدية النفس لفوات القصاص فيها بالسراية إليها وهي غير مضمونة لحدوثها عن مباح ، وقد استوفى المجني عليه من دية النفس عشرها وهي دية الإصبع المقتص منها ، فيرجع في مال الجاني بتسعة أعشار الدية ، وقد استوفينا هذين الجوابين لما تعلق بهما من شرح المذهب .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية