الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            معلومات الكتاب

                                                                                                                                            الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

                                                                                                                                            الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            مسألة : قال الشافعي رحمه الله : ولو قطع يده من مفصل الكوع فلم يبرأ حتى قطعها آخر من المرفق ثم مات فعليهما القود ، يقطع قاطع الكف من الكوع ويد الآخر من المرفق ثم يقتلان لأن ألم القطع الأول واصل إلى الجسد كله .

                                                                                                                                            [ ص: 136 ] قال الماوردي : وهذا كما قال إذا توالت جنايتان فأزالت الثانية منهما محل الأولى ، مثل أن يقطع أحدهما يده من مفصل الكوع ، ويقطع الثاني بقيتها من الكتف أو المرفق أو يقطع أحدهما إصبعه ويقطع الثاني بقية كفه ، أو يكون مثل ذلك في قطع القدم والساق ، ثم يموت المقطوع ودمه سائل ، فمذهب الشافعي أنهما قاتلان وعليهما القصاص في الطرف وفي النفس .

                                                                                                                                            وقال أبو حنيفة : الأول قاطع يجب عليه القصاص في اليد دون النفس .

                                                                                                                                            والثاني : يجب عليه القصاص في النفس دون اليد ، احتجاجا بأن السراية تحدث عن محل الجناية ، فإذا زال محلها زالت سرايتها لانقطاع مادتها ، ألا ترى أن سراية الأكلة تزول بقطع محلها ، فصار انقطاعها كالاندمال ، وصار الثاني كالمنفرد ، أو الموجئ ، فوجب أن يكون هو القاتل دون الأول .

                                                                                                                                            ودليلنا هو أن الموت بالسراية حادث عن ألمها ، وألم القطع الأول قد سرى في الحال إلى الجسد كله قبل القطع الثاني ، فانتقل محله إلى القلب الذي هو مادة الحياة فإذا حدث القطع الثاني أحدث ألما ثانيا زاد على الألم الأول ، فصار الموت حادثا عنهما لا عن الثاني منهما ، كمن سجر تنورا بنار حمي بها ثم أخرج سجاره وسجره بأخرى تكامل حماه بهما لم يكن تكامل الحمي منسوبا إلى السجار الثاني ، وإن زالت السجار الأول ، بل كان منسوبا إليهما ، كذلك تكامل الألم في القلب لم يكن بالقطع الثاني دون الأول ، بل كان بالثاني والأول .

                                                                                                                                            فإن قيل : فزيادة الألم الأول منقطعة وزيادة الألم الثاني مستديمة ، فيجب أن يكون الموت منسوبا إلى الألم الثاني لاتصال مادته دون الألم الأول لانقطاع مادته فعنه جوابان :

                                                                                                                                            أحدهما : أن هذا يقتضي زيادة الألم الثاني وقلة الأول ، وليس اختلافهما في القلة والكثرة مانعا من تساويهما في القتل ، كما لو جرحاه فكانت جراحة أحدهما أكثر ألما كانا سواء في قتله .

                                                                                                                                            والثاني : أن انقطاع أسباب الألم لا يمنع من مساواة ما بقيت أسبابه في إضافة القتل إليهما ، كما لو ضربه أحدهما بخشبة وجرحه الآخر بسيف كانا شريكين في قتله ، وإن كان أثر الخشبة مرتفعا وأثر السيف باقيا ، وفي هذين الجوابين دليل في المسألة وانفصال عن الاعتراض ، وما ذكروه من قطع الأكلة لانقطاع سرايتها فالمقصود به قطع الزيادة دون الإزالة ، وأن لا يسري إلى ما جاوزه ، وأما الاندمال فلا يكون إلا بعد زوال الألم ، والقطع لا يزيل الألم وإنما يقطع زيادته فافترقا .

                                                                                                                                            [ ص: 137 ] وأما التوجئة فلا بقاء للنفس معها ، فارتفع بها حكم السراية ، وناظرني في هذه المسألة القاضي أبو بكر الأشعري ، وقد استدللت فيها بما تقدم ، فاعترض علي بأن الألم عرض لا يبقى زمانين فاستحال أن يبقى مع انقطاع مادته فأجبته عنه بأن الألم لما وصل إلى القلب صار محلا له ، فتوالت منه مواده كما يتوالى من محل القطع .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية