الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            مسألة : قال الشافعي رضي الله عنه : وإذا عرض لهم ما يخافون به التلف عليها وعلى من فيها فألقى أحدهم بعض ما فيها رجاء أن تخف فتسلم فإن كان ماله فلا شيء على غيره ، وكذلك لو قالوا له ألق متاعك فإن كان لغيره ضمن .

                                                                                                                                            قال الماوردي : وهذا كما قال ، إذا خاف ركبان السفينة من غرقها لثقل ما فيها وعصوف الريح بها فألقى رجل بعض متاعها لتخف فتسلم فهذا على ضربين :

                                                                                                                                            أحدهما : أن يلقي متاع نفسه .

                                                                                                                                            والثاني : أن يلقي متاع غيره .

                                                                                                                                            فإن ألقى متاع غيره كان متعديا بإلقائه ، سواء كان الملقي صاحب السفينة أو غيره ، وعليه ضمانه ، سواء نجت السفينة أو هلكت ، منعه المالك من إلقائه أو لم يمنعه ، لأن إمساكه عن منعه لا يبرئه من ضمانه ، كما لو قتل له قتيلا أو قطع منه عضوا ، ولا يجب على ركبان السفينة من ضمانه شيء وإن كان سببا لسلامتهم ، فلو [ ص: 335 ] كانوا قد أمروه بإلقائه لم يضمنوا ، لأن الملقي لا يستبيح الإلقاء بأمرهم ، فصار وجود أمرهم وعدمه سواء .

                                                                                                                                            فإن قيل : فهلا سقط ضمان هذا المال لما في استهلاكه من خلاص النفوس كالفحل إذا صال فقتل لم يضمن .

                                                                                                                                            قيل : لأن خوف الفحل لمعنى فيه فسقط ضمانه ، وخوف الغرق لمعنى في غير المالك فلزم ضمانه ، كما لو اضطر إلى أكل طعام غيره ضمنه ، فإن ألقى متاع نفسه على ضربين :

                                                                                                                                            أحدهما : بأمرهم .

                                                                                                                                            والثاني : بغير أمرهم .

                                                                                                                                            فإن ألقاه بغير أمرهم كان محتسبا في إلقائه لما يرجى من نجاته ونجاتهم ، وليس له الرجوع بقيمته على أحد منهم ، وإن كان ألقاه سببا لنجاتهم : لأنه تطوع بإلقائه ، وإن ألقاه بأمرهم فعلى ضربين :

                                                                                                                                            أحدهما : أن يضمنوا له قيمته .

                                                                                                                                            والثاني : أن لا يضمنوها .

                                                                                                                                            فإن لم يضمنوها بل قالوا ألق متاعك فألقاه فلا غرم له عليهم وإن أمروه به ، وحكي عن مالك أن عليهم ضمانه وغرمه : لأن الآمر كالفاعل ، ولما في ذلك من عموم الصالح وهذا فاسد : لأمرين :

                                                                                                                                            أحدهما : أنهم لو أمروه باستهلاكه في غير البحر لم يضمنوه فكذلك في البحر .

                                                                                                                                            والثاني : أنهم لو أمروه بعتق عبده أو بطلاق زوجته لم يضمنوا كذلك بإلقاء ماله وإن ضمنوه له فقالوا له ألق متاعك وعلينا ضمانه فألقاه لزمهم ضمانه ، وهو قول الجمهور ، وقال أبو ثور : لا يلزمهم ضمانه ، لأنه ضمان ما لم يجب ، كما لو قال له : قد ضمنت لك ما تداين به فلانا لم يلزمه ضمان ما داينه به ، لتقدم ضمانه على الوجوب ، وهذا فاسد من وجهين :

                                                                                                                                            أحدهما : أن أحكام الضرورات وعموم المصالح أوسع من أحكام العقود الخاصة في الاختيار .

                                                                                                                                            والثاني : أنه لو قال له : اعتق عبدك عني وعلي ضمانه لزمه الضمان لعتقه كذلك في مسألتنا ، فأما ضمان ما لم يجب فقد اختلف أصحابنا فيه هاهنا على وجهين :

                                                                                                                                            أحدهما : أنه ليس بضمان ، وإنما هو استدعاء للاستهلاك بشرط الغرم : لأن [ ص: 336 ] الضمان ما كان الضامن فيه فرعا للمضمون عنه وهذا غير موجود هاهنا .

                                                                                                                                            والوجه الثاني : أنه ضمان وإن انعقد قبل الوجوب بخلاف المداينة .

                                                                                                                                            والفرق بينهما أن ضمان المتاع بعد إلقائه لا يصح فصح ضمانه قبل إلقائه ، وضمان المداينة بعد استحقاقها يصح فلا يصح ضمانها قبل الاستحقاق ، ويشهد له من الأصول أن بيع الثمر لما صح بعد خلقها لم يجز بيعها قبل خلقها ، ومنافع الدار المستأجرة لما لم تصح المعاوضة عليها بعد حدوثها صح قبل حدوثها ، كذلك ما ذكرناه من الضمان .

                                                                                                                                            فأما إذا قال له وقد أمنوا الغرق : ألق متاعك في البحر وعلي ضمانه ، فألقاه ففي لزوم هذا الضمان وجهان :

                                                                                                                                            أحدهما : وهو قول أبي حامد الإسفراييني : لا يلزمه لعدم الضرورة وارتفاع الأغراض الصحيحة .

                                                                                                                                            والوجه الثاني : يلزمه ضمان بشرط الضمان عند الاستهلاك ، والأول أشبه والثاني أقيس .

                                                                                                                                            فأما أخذ الرهن في هذا الضمان فلا يصح لأمرين :

                                                                                                                                            أحدهما : لعقده قبل وجوب الحق .

                                                                                                                                            والثاني : للجهل بمقدار القيمة .

                                                                                                                                            وأجازه بعض أصحابنا كالضمان وليس بصحيح : لأن حكم الضمان أوسع من حكم الرهن : لأن ضمان الدرك يجوز أخذ الرهن عليه .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية