الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            مسألة : قال الشافعي - رحمه الله - : ولا يقتل والد بولد لأنه إجماع ولا جد من قبل أم ولا أب بولد ولد وإن بعد لأنه والد ( قال المزني ) رحمه الله : هذا يؤكد ميراث الجد لأن الأخ يقتل بأخيه ، ولا يقتل الجد بابن ابنه ، ويملك الأخ أخاه في قوله ، ولا يملك جده وفي هذا دليل على أن الجد كالأب في حجب الإخوة وليس كالأخ .

                                                                                                                                            قال الماوردي : ولا يقتل والد ولا والدة ولا جد ولا جدة بولد ولا بولد ولد وإن سفل ، سواء قتله ذبحا أو حذفا وقال مالك : إن ذبحه غيلة قتل به وإن حذفه بسيف فقتله لم يقتل به ، استدلالا بعموم الكتاب والسنة ، ولأن تساويهما في الإسلام والحرية يوجب تساويهما في القود كالأجانب ولأنه لما قتل الولد بالوالد جاز قتل الوالد بالولد . ودليلنا ما روى قتادة عن عمرو بن دينار عن طاوس عن ابن عباس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : لا تقام الحدود في المساجد ، ولا يقاد بالولد الوالد .

                                                                                                                                            وروى محمد بن عجلان عن عمرو بن شعيب عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن رجلا من بني مدلج أولد جارية فأصاب منها ابنا ، وكان يستخدمها ، فلما شب الغلام قال : إلى متى تستأمي أمي - أي : تستخدمها خدمة الإماء - فغضب فحذفه بسيف أصاب رجله فقطعها ، ومات فانطلق في رهط إلى عمر - رضي الله عنه - فقال : يا عدو نفسه أنت الذي قتلت ابنك لولا أني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : لا يقاد الأب من ابنه لقتلتك هلم ديته ، قال : فأتاه بعشرين ومائة بعير قال فخير منها مائة فدفعها إلى ورثته ، وترك أباه فإن قيل : إنما أسقط عنه القود للحذف ودخول الشبهة فيه بما جعل له من تأديبه ، وهذا المعنى مفقود في ذبحه غيلة .

                                                                                                                                            [ ص: 23 ] قيل : هذا فاسد من وجهين : أنه ليس في عرف التأديب حذفه بالسيف فلم يجز حمله عليه .

                                                                                                                                            والثاني : أنه لو جاز لما استحقه من تأديبه أن لا يقال لحذفه يسقط به القود عن كل مستحق للتأديب من وال وحاكم ، وهم يقادون به مع استحقاقهم للتأديب فكذلك الأب ، ولأنه لا يخلو سقوط القود عن الأب في الحذف أن يكون لشبهة في الفعل ، أو في الفاعل ، فلم يجز أن يكون لشبهة في الفعل : لأنه لا يكون شبهة فيه مع غير الولد فثبت أنه لشبهة في الفاعل وهو الأبوة فوجب أن يسقط عنه القود مع اختلاف أحواله ، ولأن الولد بعض أبيه ، ولا قود على الإنسان فيما جناه على نفسه كذلك لا قود عليه في ولده لأنه بعض نفسه .

                                                                                                                                            واستدلاله بالظواهر مخصوص وقياسه على الأجانب ممنوع بما ذكرناه من البعضية واعتباره بقتل الولد بالوالد فاسد لتسويته في الولد بين الذبح والحذف ، وفرقه في الأب بين الذبح والحذف ، وأنه يحد الولد بقذف الوالد ، ولا يحد الوالد بقذف الولد ، وهذا انفصال ودليل .

                                                                                                                                            فإن قيل : فكيف قال الشافعي فيما خالف فيه مالك : لأنه إجماع ؟ وكيف ينعقد الإجماع مع خلاف مثله ؟ فعنه جوابان :

                                                                                                                                            أحدهما : أنه أراد به الصحابة لأنه قول عمر رضي الله تعالى عنه ولم يخالف أحدهم .

                                                                                                                                            والثاني : أنه قتله حذفا إجماع لا يعرف فيه خلاف فكان الذبح بمثابته .

                                                                                                                                            فأما المزني فإنه لما رأى الشافعي يقول : إن الجد كالأب في أنه لا يقتل بولد ولده قال : يجب أن يكون الجد كالأب في حجب الإخوة عن الميراث .

                                                                                                                                            قيل : إنما قال : إن الجد كالأب لأجل الولادة ولا يقتضي أن يحجب به الإخوة ، كما تجعل الأم وأباها كالأب في سقوط القود ، ولا تجعلها كالأب في حجب الإخوة .

                                                                                                                                            فصل : فإذا ثبت أن لا قود على الأبوين ومن علا من الأجداد والجدات من ورث منهم أو لم يرث فسواء كان الوالد القاتل حرا أو عبدا مسلما أو كافرا ، ويعزر لإقدامه على معصية ، وعليه الدية والكفارة في ماله ، ولا ميراث له منه : لأن القاتل لا يرث .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية