الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            معلومات الكتاب

                                                                                                                                            الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

                                                                                                                                            الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            مسألة : قال الشافعي رضي الله عنه : وأيهم عفا عن القصاص كان على حقه من الدية وإن عفا على غير مال كان الباقون على حقوقهم من الدية .

                                                                                                                                            قال الماوردي : وإن عفا على غير مال كان الباقون على حقوقهم من الدية إذا كان أولياء المقتول جماعة فعفا أحدهم عن القود سقط جميع القود في حقوق جماعتهم ، ولم يكن لواحد منهم أن يقتص سواء عفا أقلهم أو أكثرهم .

                                                                                                                                            [ ص: 105 ] وقال مالك : يجوز لمن لم يعف أن يقتص ولو كان واحدا من جماعة استدلالا بقول الله تعالى ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا فلو سقط حقه بعفو غيره لكان السلطان عليه ولم يكن له ، ولأن القود موضوع لنفي المعرة كحد القذف ، ثم ثبت أن حد القذف لا يسقط بعفو بعض الورثة ، كذلك القود يجب أن يكون بمثابتهم ، ولأنه لما لم يكن عفو بعضهم عن الدية مؤثرا في حق غيره وجب أن يكون عفوه عن القود غير مؤثر في حق غيره .

                                                                                                                                            ودليلنا قول الله تعالى فمن عفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان وهو محمول عند كثير من المفسرين على عفو بعض الورثة ، لأنه جاء بذكر الشيء منكرا ، وجعل عفوه موجبا لاتباع الدية بمعروف ، وأن تؤدى إليه بإحسان ويحمل على عموم العفو من الواحد والجماعة .

                                                                                                                                            وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - فمن قتل بعده قتيلا فأهله بين خيرتين إن أحبوا قتلوا ، وإن أحبوا أخذوا العقل فجعل الخيار في القود لجميع أهله لا لبعضهم ، ولأنه إجماع الصحابة رضي الله عنهم روي أن رجلا قتل رجلا على عهد عمر - رضي الله عنه - فطالب أولياؤه بالقود فقالت أخت المقتول وهي زوجة القاتل : عفوت عن حقي من القود ، فقال عمر : الله أكبر ، عتق الرجل . يعني من القود ، ولم يخالفه من الصحابة أحد مع انتشاره فيهم ، فثبت أنه إجماع ، ولأن القود أحد بدلي النفس فلم يكن لبعض الورثة أن ينفرد باستيفاء جميعه كالدية ، ولأن القاتل قد ملك بالعفو بعض نفسه فاقتضى أن يستوي في الباقي منها كالعتق ، ولأنه قد اجتمع في نفس القاتل إيجاب القود وإسقاطه فوجب أن يغلب حكم الإسقاط على الإيجاب لأمرين :

                                                                                                                                            أحدهما : أن القود يسقط بالشبهة ، وهذا من أقوى الشبه .

                                                                                                                                            والثاني : أن لسقوط ما وجب منه بدلا وهو الدية ، وليس للإيجاب ما سقط منه بدل .

                                                                                                                                            فأما الجواب عن الآية فقد مضى .

                                                                                                                                            وأما الجمع بين القود وحد القذف فغير صحيح ، لأنهم في القود مشتركون وفي الحد منفردون ، فلم يجز أن ينفرد أحدهم باستيفاء القود وجاز أن ينفرد باستيفاء الحد ، وإنما اشتركوا جميعا في القود وانفرد كل واحد في الحد لأمرين :

                                                                                                                                            [ ص: 106 ] أحدهما : أنهم ملكوا القود ميراثا عن ميتهم لأنه بدل عن نفسه فاشتركوا فيه كالدية وملكوا الحد نيابة عن ميتهم لنفي العار عنه فانفرد كل واحد منهم به .

                                                                                                                                            والثاني : أن القود بدل فلم يسقط بالعفو حق من لم يعف ، فلذلك ما اشتركوا وليس للحد بدل فانفرد ، ولئلا يسقط بالعفو حق من لم يعف ، وأما الدية فإنما لم تسقط بالعفو حق من لم يعف ، لأنها تتبعض فصح أن ينفرد كل واحد منهما باستيفائه حقه ، لأنه لا يتعدى استيفاؤه إلى حق شريكه والقود لا يتبعض ولا يمكن كل واحد منهم أن ينفرد باستيفاء حقه منه إلا بالتعدي إلى حق شريكه ، فسرى العفو عن القود ولم يسر العفو عن الدية .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية