الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            مسألة : قال الشافعي رحمه الله : ولو قتله عمدا ومعه صبي أو معتوه أو كان حر وعبد قتلا عبدا أو مسلم ونصراني قتلا نصرانيا أو قتل ابنه ومعه أجنبي فعلى الذي عليه القصاص القصاص وعلى الآخر نصف الدية في ماله وعقوبة إن كان الضرب عمدا ( قال المزني ) - رحمه الله - وشبه الشافعي أخذ القود من البالغ دون الصبي بالقاتلين عمدا يعفو الولي عن أحدهما ، إن له قتل الآخر ، فإن قيل وجب عليهما القود فزال عن أحدهما بإزالة الولي ، قيل : فإذا أزاله الولي عنه أزاله عن الآخر ، فإن قال : لا قيل : فعلهما واحد فقد حكمت لكل واحد منها بحكم نفسه لا بحكم غيره . ( قال : ) فإن شركه قاتل خطأ فعلى العامد نصف الدية في ماله وجناية المخطئ على عاقلته . واحتج على محمد بن الحسن في منع القود من العامد إذا شاركه صبي أو مجنون ، فقال : إن كنت رفعت عنه القود لأن القلم عنهما مرفوع وأن عمدهما خطأ على عاقلتهما فهلا أقدت من الأجنبي إذا قتل عمدا مع الأب لأن القلم عن الأب ليس بمرفوع وهذا ترك أصلك ( قال المزني ) رحمه الله : قد شرك الشافعي - رحمه الله - محمد بن الحسن فيما أنكر عليه في هذه المسألة لأن رفع القصاص عن الخاطئ والمجنون والصبي واحد فكذلك حكم من شاركهم بالعمد واحد .

                                                                                                                                            قال الماوردي : إذا اشترك اثنان في قتل نفس لم يخل حالهما من ثلاثة أقسام :

                                                                                                                                            أحدها : أن يكون كل واحد منهما لو انفرد بقتله قتل به كحرين قتلا حرا أو عبدين قتلا عبدا ، أو كافرين قتلا كافرا ، فعليهما إذا اشتركا في قتله القود ، لأن كل واحد منهما لو انفرد بقتله وجب عليه القود .

                                                                                                                                            [ ص: 128 ] والقسم الثاني : أن يكون كل واحد منهما لو انفرد بقتله لم يجب عليه القود ، كحرين قتلا عبدا ، أو مسلمين قتلا كافرا ، فلا قود عليهما إذا اشتركا لسقوط القود عن كل واحد منهما إذا انفرد .

                                                                                                                                            والقسم الثالث : أن يجب القود على أحدهما لو انفرد ، ولا يجب على الآخر إذا انفرد ، فهذا على ضربين :

                                                                                                                                            أحدهما : أن يكون سقوط القود عنه لو انفرد لمعنى في نفسه ، كالأب إذا شارك أجنبيا في قتل ولده ، وكالحر إذا شارك عبدا في قتل عبده ، وكالمسلم إذا شارك كافرا في قتل كافر ، فيسقط القود عنه لمعنى في نفسه لا في فعله .

                                                                                                                                            والضرب الثاني : أن يكون سقوط القود عنه لو انفرد لمعنى في فعله كالخاطئ إذا شارك عامدا في القتل أو تعمد الخطأ إذا شارك عمدا محضا فيسقط القود عنه لمعنى في فعله لا في نفسه ، فاختلف الفقهاء في شريك من سقط عنه القود بأحد هذين الضربين ، هل توجب الشركة سقوط القود عنه بسقوطها عن شريكه أم لا ؟ على ثلاثة مذاهب :

                                                                                                                                            أحدها : وهو مذهب مالك ، أنه لا يسقط القود عنه بسقوطه عن شريكه ، سواء كان سقوط القود عنه لمعنى في نفسه كالأب إذا شارك أجنبيا ، أو لمعنى في فعله كالخاطئ إذا شارك عامدا .

                                                                                                                                            والثاني : وهو مذهب أبي حنيفة أنه يسقط القود عنه لسقوطه عن شريكه ، سواء سقط القود عنه لمعنى في نفسه كالأب إذا شارك أجنبيا ، أو لمعنى في فعله كالخاطئ إذا شارك عامدا .

                                                                                                                                            والثالث : وهو مذهب الشافعي أنه إذا شارك من سقط القود عنه لمعنى في نفسه كالأب إذا شارك أجنبيا لم يسقط القود عن الأجنبي ، وإن شارك من سقط عنه القود لمعنى في فعله كالخاطئ إذا شارك عامدا لم يجب القود على العامد ، فصار الخلاف مع مالك في شريك الخاطئ ، عنده يقتل ، وعند الشافعي لا يقتل ، ومع أبي حنيفة في شريك الأب ، عند أبي حنيفة لا يقتل ، وعند الشافعي يقتل .

                                                                                                                                            فأما مالك فاستدل على أن شريك الخاطئ يقتل ، بأن كل من وجب عليه القود إذا انفرد وجب عليه القود إذا شارك فمن ليس عليه قود ، كشريك الأب ، ولأنه لو جاز أن يتعدى حكم الخاطئ إلى العامد في سقوط القود لجاز أن يتعدى حكم العامد إلى الخاطئ في وجوب القود ، ولأنه لما لم يتغير حكم الدية بمشاركة الخاطئ لم يتغير بها حكم القود .

                                                                                                                                            [ ص: 129 ] والدليل على أن شريك الخاطئ لا يقتل قول النبي صلى الله عليه وسلم ألا إن في قتيل العمد الخطأ قتيل السوط والعصا مائة من الإبل مغلظة ، وهذا القتيل قد اجتمع فيه عمد وخطأ ، فوجب أن يستحق فيه الدية دون القود ، ولأنها نفس خرجت بعمد وخطأ ، فوجب أن يسقط فيها القود ، كما لو جرحه الواحد عمدا وجرحه خطأ : ولأنه إذا اجتمع في النفس موجب ومسقط يغلب حكم المسقط على حكم الموجب ، كالحر إذا قتل من نصفه مملوك ونصفه حر ، ولأن سقوط القود في الخطأ يجري في حق القاتل مجرى عفو بعض الأولياء ، وسقوطه عن الأب يجري مجرى العفو عن أحد القاتلين ، وعفو بعض الأولياء يوجب سقوط القود في حق من بقي من الأولياء والعفو عن أحد القتلة لا يوجب سقوط القود عمن بقي من القتلة ، وهذا دليل وانفصال عن جميعه بين الأمرين .

                                                                                                                                            وقوله : " لو تعدى الخطأ إلى العمد لتعدى العمد إلى الخطأ " فهو خطأ بما ذكرناه ، وأن اجتماع الإيجاب والإسقاط يقتضي تغليب حكم الإسقاط على الإيجاب .

                                                                                                                                            وقوله : " لما لم يتغير حكم الدية لم يتغير حكم القود " ليس بصحيح ، لأن الدية تتبعض والقود لا يتبعض .

                                                                                                                                            فإذا ثبت سقوط القود عن العامد لسقوطه عن الخاطئ فعلى العامد نصف الدية مغلظة حالة في ماله ، وعلى عاقلة الخاطئ نصف الدية مخففة إلى أجلها .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية