فإن قلتم : أردنا بالمعتبرين من المتكلمين صنفا من الطوائف كالمتكلمين من أصحاب  الأشعري  مثلا ، أو كافة المعتزلة  أو المتكلمين من الفقهاء ونحو ذلك . 
فالجواب عنه من وجوه : 
أحدها : أنه ما من واحد من هؤلاء إلا له تأويلات ينكرها عليه  [ ص: 79 ] بعض أصحابه مع أهل الحديث وغيرهم ، بل من هؤلاء [من] هو نفسه يحرم التأويل أو يبطله تارة ، ويسيغه ويصححه أخرى لأصحاب الحديث . 
أما المعتزلة  فمن أكثر الناس في التأويل  ، وأهل الحديث وغيرهم من علماء المسلمين ينكرون عليهم تأويلاتهم المخالفة لهم تحريما وإبطالا . 
وأما أصحاب  الأشعري  فهم ثلاثة أصناف : 
صنف يحرم تأويل الصفات السمعية المذكورة في القرآن كالوجه واليد والعين ، ويبطل ذلك   . وهذا هو الذي ذكره  الأشعري  في "الإبانة" ، حكاه عن أهل السنة جميعهم ، وهو الذي ذكره  أبو بكر ابن الباقلاني  أفضل أصحابه ، وأبو علي ابن شاذان  ، وذكره  أبو بكر ابن فورك  في اليد وغيرها ، وعليه الأشعرية  المتمسكون بالقول الثاني . 
وصنف يحرم التأويل ، ولا يتكلم في صحته ولا فساده   . وهذا الذي ذكره أبو المعالي الجويني  في رسالته "النظامية" ، وهو قول أكثر المفوضة من المتكلمين . 
وصنف يبيحه للعلماء عند الحاجة ، ومنهم من يبيحه مطلقا . 
وهذا قول الجويني  في "إرشاده" وغيره ، وجميع هؤلاء مختلفون في صحة بعض التأويلات وفسادها .  [ ص: 80 ] 
فهؤلاء -كما ترى- مختلفون في التأويل تحريما وجوازا ، وصحة وفسادا . 
وأما المعتزلة  فهم وإن كانوا أكثر تأويلا فإنهم مختلفون في عامة التأويلات صحة وفسادا ، ومختلفون أيضا في جنس كثير من التأويل ، مثل اختلافهم في نصوص عذاب القبر ونعيمه : هل تتأول أو تجرى على ظاهرها; وفي نصوص الصراط والميزان والحوض : 
هل تتأول أو لا تتأول ، إلى غير ذلك . منهم من يبيح تأويل ذلك ويصححه ، ومنهم [من] يحرمه ويبطله . 
وسأذكر إن شاء الله مذاهب الأمة في أجناس التأويلات ، وإنما الغرض هنا أن من تعصب لفرقة من أهل الكلام وجعلهم هم المعتبرين دون غيرهم  ، بحيث يبيح لهم التأويل ويدعي أن أحدا من المعتبرين لم يحظره عليهم لم يصح له ذلك; إذ ما من طائفة إلا وقد حرم وأنكر عليها أنواع من التأويل . 
الوجه الثاني : أن تعيين القائل طائفة دون غيرها وتسميتها بالمعتبرين لا يخفى أنه نوع من التحكم والتعصب ، فإن مجرد [قول] القائل : أنا معتزلي أو أشعري ، أو أنا من أهل الحديث أو من الفقهاء ، أو إني حنفي أو مالكي أو شافعي أو حنبلي ، [لا] يصير به من المعتبرين عند الله ورسوله ، بحيث يباح له في الشرع بذلك ما كان محظورا ، ويسوغ له من التأويل ما كان محجورا عليه . 
الوجه الثالث : أنا قلنا : "تأويل أهل الكلام المخالف لأهل الحديث باطل" ، وذلك لا يوجب أن يكون تأويل طائفة معينة باطلا ،  [ ص: 81 ] ولا يوجب أن يكون تأويل معتبر باطلا ، فلا يرد هذا علينا . 
الوجه الرابع : أنا سننقل إن شاء الله من النقول الكثيرة ما يبين ما عليه أهل الإسلام من إنكار التأويلات الصادرة عن كل طائفة من طوائف المتكلمين إن شاء الله . 
فهذا كله في عدم توجيه سؤال القول بالموجب الذي جعل سنده "لا نسلم أن المعتبرين من المحدثين منعوا تأويل المعتبرين من المتكلمين" . 
قولكم : "فإن نقل ما ظاهره المنع حملناه على التأويل بغير دليل ، أو على غير القواعد العلمية ، توفيقا بين العلماء وصيانة لهم عن تخطئة بعضهم" غير وارد لوجوه : 
أحدها : أن التأويل بغير دليل وبغير قواعد لا يبيحه ولا يسلكه أحد من عقلاء الناس المنتسبين إلى العلم ، سواء كانوا كفارا أو مؤمنين ، مستنة أو مبتدعة ، فإن أشد الناس تأويلا من الفلاسفة  والباطنية  إنما يتأولون -زعموا- لقيام الأدلة العقلية الموجبة لتلك التأويلات عندهم ، ويزعمون أنهم يجرونها على القواعد العقلية والسمعية . 
وأما المعتزلة  فأمرهم في ذلك أظهر ، فإنهم يزعمون أنهم فرسان الكلام ودعاة الإسلام ، الحافظين له بالقواعد العقلية والموارد السمعية ، وأن من خالفهم من الفقهاء والمحدثين والمتكلمين والأشعرية  والكلابية  والكرامية  وغيرهم هم حشو الناس . وهم أهل فتنة واضطراب ،  [ ص: 82 ] ثم بين البصريين منهم والبغداديين من الاختلاف في القياس ما الله به عليم ، ثم بين شيوخ البصريين وشيوخ البغداديين خلاف عظيم ، وكل منهم إنما يتأول بدليل عنده وعلى القواعد العلمية . 
بل الأشعرية  ونحوهم من المتكلمين المنتسبين إلى أهل الحديث مختلفون في التأويل صحة وفسادا وحلا وحظرا ، والمتأول منهم إنما يتأول للدليل وعلى القواعد . 
فإذا كان كل متأول إنما تأول بدليل وعلى القواعد ، فقد خالفه غيره من أهل الحديث وغيرهم في التأويل ، فكيف يمكن أن يحمل إنكارهم على التأويل الخالي من الدليل والقواعد؟ 
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					