الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ولا نزاع بين المسلمين في أنه يشرع قصدها لأجل العبادات المشروعة فيها ، وأن ذلك واجب أو مستحب . وأما النزاع في المجاورة فلما فيه من تعارض للمصلحة والمفسدة كما تقدم . وحينئذ فمن كان مجاورته فيما يكثر حسناته ويقل سيئاته فمجاورته فيها أفضل من بلد لا يكون حاله فيه كذلك . فأفضل البلاد في حق كل شخص حيث كان أبر وأتقى ، وإن أكرم الخلق عند الله أتقاهم .

ولهذا لما كتب أبو الدرداء إلى سلمان الفارسي ، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - قد آخى بينهما ، وكان أبو الدرداء بالشام وسلمان بالعراق ، [ ص: 346 ] فكتب إليه أبو الدرداء أن هلم إلى الأرض المقدسة ، فكتب إليه سلمان : إن الأرض لا تقدس أحدا; وإنما يقدس الرجل عمله الصالح . ومقصوده بذلك أنه قد يكون بالأرض المفضولة من يكون عمله صالحا أو أصلح بما يحبه الله ورسوله .

وهذا مما يبين أن جنس المرابطة أفضل من جنس المجاورة بالحرمين كما اتفق عليه الأئمة . فإذا كانت نية العبد في هذا خالصة ، ونيته في هذا خالصة ، ولم يكن ثم عمل مفضل يفضل به أحدهما ، فالمرابطة أفضل; فإنها من جنس الجهاد ، وتلك من جنس الحج ، وجنس الجهاد أفضل من جنس الحج .

ولهذا قال أبو هريرة : لأن أرابط ليلة في سبيل الله أحب إلي من أن أقوم ليلة القدر عند الحجر الأسود . وفي لفظ رواه سعيد بن منصور في "سننه" عن عطاء الخراساني عن أبي هريرة قال : "رباط يوم في سبيل الله أحب إلي من أن أقوم ليلة القدر في أحد المسجدين -مسجد الحرام ومسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - - ومن رابط أربعين يوما في سبيل الله فقد استكمل الرباط" .

وقد قال تعالى : أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله لا يستوون عند الله والله لا يهدي القوم الظالمين الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم أعظم درجة [ ص: 347 ] عند الله وأولئك هم الفائزون يبشرهم ربهم برحمة منه ورضوان وجنات لهم فيها نعيم مقيم .

وفي صحيح مسلم عن النعمان قال : كنت عند منبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فقال رجل : لا أبالي أن لا أعمل عملا بعد الإسلام إلا أن أسقي الحاج . وقال الآخر : إلا أن أعمر المسجد الحرام . وقال آخر : الجهاد في سبيل الله أفضل مما قلتم ، فزجرهم عمر بن الخطاب ، وقال : لا ترفعوا أصواتكم عند منبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وهو يوم الجمعة ، ولكن إذا صليت الجمعة دخلت فاستفتيته فيما اختلفتم فيه ، فأنزل الله : أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله الآية .

وعن عثمان بن عفان قال ، سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : " [رباط] يوم في سبيل الله خير من ألف يوم فيما سواه" . رواه الإمام أحمد ، والنسائي وهذا لفظه ، والترمذي وقال : حديث حسن غريب من هذا الوجه ، وأبو حاتم بن حبان البستي في "صحيحه" . ولفظ الإمام أحمد : عن أبي صالح مولى عثمان بن عفان قال : سمعت [ ص: 348 ] عثمان يقول على المنبر : أيها الناس! إني كتمتكم حديثا سمعته من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، كراهية تفرقكم عني ، ثم بدا لي أن أحدثكم ، ليختار امرؤ لنفسه ما بدا له ، سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : "رباط يوم في سبيل الله خير من ألف يوم فيما سواه من المنازل" .

فقد بين لهم عثمان هذا الحديث مع كونهم كانوا مقيمين عنده بالمدينة النبوية; مصلين في المسجد الذي قال فيه - صلى الله عليه وسلم - : "صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه من المساجد إلا المسجد الحرام" .

ودل ذلك على أن تضعيف الصلاة لا يقاوم تضعيف اليوم الذي يعم جميع الأعمال ، فإن الجهاد يقاوم ما لا يمكن المداومة عليه من صيام وقيام . كما في الصحيحين عن أبي هريرة قال : قيل : يا رسول الله! ما يعدل الجهاد في سبيل الله؟ قال : "لا تستطيعون" .

قال : فأعادوا عليه مرتين أو ثلاثا ، كل ذلك يقول : "لا تستطيعون" .

قال في الثالثة : "مثل المجاهد في سبيل الله كمثل الصائم القائم القانت بآيات الله لا يفتر من صيام ولا صلاة حتى يرجع المجاهد في سبيل الله"
. هذا لفظ مسلم .

ولفظ البخاري : جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : دلني على [ ص: 349 ] عمل يعدل الجهاد؟ قال : لا أجده . قال : "هل تستطيع إذا خرج المجاهد أن تدخل مسجدك فتقوم لا تفتر ، وتصوم لا تفطر؟ " قال : ومن يستطيع ذلك؟ قال أبو هريرة : إن فرس المجاهد ليستن في طوله فيكتب له حسنات .

وفي الصحيحين عن أبي سعيد الخدري أن رجلا أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : أي الناس أفضل؟ فقال : "رجل مجاهد في سبيل الله بماله ونفسه" . قال : ثم من؟ قال : "ثم رجل معتزل في شعب من الشعاب يعبد ربه ، ويدع الناس من شره" . لفظ مسلم .

وقد جاءت النصوص الصحيحة الصريحة بفضل الجهاد على الحج ، كما في الصحيحين عن أبي هريرة قال : سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أي الأعمال أفضل؟ قال : "الإيمان بالله ورسوله" . قيل : ثم ماذا؟ قال : "الجهاد في سبيل الله" . قيل : ثم ماذا؟ قال : "حج مبرور" .

وفي الصحيحين أيضا عن أبي ذر قال : قلت : يا رسول الله! أي الأعمال أفضل؟ قال : "الإيمان بالله ، والجهاد في سبيله" .

فهذا موافق ما دل عليه القرآن من تفضيل الجهاد على الحج .

وقد روي : "غزوة لا قتال فيها أفضل من سبعين حجة" . وهذا لا يناقض ما في الصحيحين عن ابن مسعود قال سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - [ ص: 350 ] أي العمل أفضل؟ قال : "الصلاة لوقتها" . قلت : ثم أي؟ قال : "بر الوالدين" . قلت : ثم أي العمل أفضل؟ قال : "الجهاد في سبيل الله" . حدثني بهن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ولو استزدته لزادني .

فإن هذا الحديث أيضا يدل على فضل الجهاد على الحج وغيره .

وأما الصلاة فإنها قد تدخل في مسمى الإيمان . كما في قوله : وما كان الله ليضيع إيمانكم قال البراء بن عازب وغيره : صلاتكم إلى بيت المقدس ، إذ هي بمنزلة الشهادتين في أنها لا تسقط بحال ، ولا ينوب فيها أحد عن أحد ، ويدخل بها في الإيمان ، وقد جاءت النصوص بإطلاق الكفر على تاركها .

ثم في صحيح مسلم عن جابر قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "ليس بين العبد وبين الكفر والشرك إلا ترك الصلاة" .

وفي السنن عن بريدة بن الحصيب قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة ، فمن تركها فقد كفر" . رواه الإمام أحمد وابن ماجه والترمذي والنسائي ، وقال : حديث حسن صحيح غريب . أطلق الكفر على جاحد الصلاة . [ ص: 351 ]

وفي الترمذي عن عبد الله بن شقيق قال : كان أصحاب محمد لا يعدون شيئا من الأعمال تركه كفر إلا الصلاة .

وفي البخاري أن عمر بن الخطاب لما طعن وأغمي عليه ، قيل : الصلاة! فقال : "نعم ، ولا حظ في الإسلام لمن ترك الصلاة" .

وعن غير واحد من الصحابة والتابعين أنهم ذكروا أن من ترك الصلاة فقد كفر .

فهذه الخاصية التي للصلاة تقتضي أن تدخل في قوله : "إيمان بالله ، وجهاد في سبيله ، ثم حج مبرور" .

وكذلك بر الوالدين قد قرن حقهما بحق الله ، في مثل قوله : أن اشكر لي ولوالديك ، وفي قوله : وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا . وكما في الصحيحين الحديث : "كفر بالله : تبرؤ من نسب وإن دق ، ومن ادعى إلى غير أبيه فقد كفر ، ولا ترغبوا عن آبائكم ، فإنه كفر بكم أن ترغبوا عن آبائكم" . [ ص: 352 ]

وإن كان كذلك فيمكن أن يقال : إن هذا دخل في مسمى الإيمان أيضا ، أو يقال : بر الوالدين إنما يجب على من له والدان ، فذكرهما في حديث ابن مسعود; لأن ابن مسعود كان له والدة; فكان ذلك حكم من حاله كحاله . وأما حيث لم يذكرهما فذكر ما يعم من الأعمال; فيدخل فيه من ليس له أبوان .

التالي السابق


الخدمات العلمية