الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ونظير هذا من مسائل العبادات البدنية الصلاة ، فإن المأموم يجب عليه متابعة الإمام فيما يسوغ فيه الاجتهاد وإن كان المأموم لا يراه ، كما لو قنت الإمام في الفجر ، أو زاد في تكبير الجنازة إلى سبع . لكن لو أخل في الصلاة بركن أو شرط في مذهب المأموم دون مذهبه فهذه فيها الخلاف . وهو يشبه إجزاء إخراج الزكاة من بعض الوجوه ، لكن إن كان الإمام لا يطلب منه الزكاة وإنما هو بذلها له ، [ ص: 389 ] فقبضها الإمام باجتهاده ، فهذا نظير صلاته خلفه; وإن كان الإمام يطلب منه الزكاة بحيث يجب طاعته ، فهذا نظير أن يصلي خلفه ما لا يمكنه فعله خلف غيره ، كالجمعة والعيدين ونحوهما . ولهذا إذا قلنا : لا تصح الصلاة خلف الفاسق ، فإنه يجب فعل هذه الصلوات خلفه ، وفي الإعادة روايتان . فالأمر بفعل الصلاة خلفه وبالإعادة يشبه الأمر بإيتاء الزكاة وبالإعادة .

ومع هذا فمذهب أهل السنة المأثور عن الصحابة أنه يجزئ دفع الزكاة إلى الإمام الذي يجور في قسمها ، فإجزاؤها مع أخذها بالاجتهاد أولى ، وإن كان رب المال لا يجزئه صرفها في غير المصارف ، لكن المأثور عن الصحابة الأمر بدفع الزكاة إليهم وبالصلاة خلفهم .

والمفسدة في الزكاة أشد ، فإذا ساغ ذلك فهذا أسوغ .

والسلف لم يأمروا من صلى خلفهم بإعادة ، ولا من دفع الزكاة إليهم بإعادة ، ولهذا قال أحمد في رسالته في "السنة" : إن من أعاد الجمعة فهو مبتدع . لكن المسألتان واحدة ، فالمتفق عليه حجة على المختلف فيه ، وتخرج في صورة الوفاق ما في صورة النزاع ، فإن طائفة من السلف ذهبوا إلى أنه لا يدفع إليهم الزكاة ، كعبيد بن عمير وغيره ، وكان عمر بن الخطاب هو أمير المؤمنين رضي الله عنه ، الذي انتشرت الرعية في زمنه ، وكثرت الأموال ، وعدل فيها صادقا بارا راشدا تابعا للحق ، فوضع الخراج على ما فتحه عنوة ، [ ص: 390 ] كأرض السواد ونحوها ، ووضع ديوان العطاء للمقاتلة وللذرية ، وكان عثمان بن حنيف على الخراج ، وزيد بن ثابت -فيما أظن- على ديوان العطاء . وما زالت هذه التسمية معروفة : "ديوان الخراج" وهو المستخرج من الأموال السلطانية; و"ديوان العطاء" كديوان الجيش وديوان النفقات ونحو ذلك .

ولولاة الأمور من الملوك ودولهم في ذلك عادات واصطلاحات ، بعضها مشروع ، وبعضها مجتهد فيه ، وبعضها محرم ، كما للقضاة والعلماء والمشايخ ، منهم من هو من أهل العلم والعدل كأهل السنة ، فيتبعون النص تارة والاجتهاد أخرى; ومنهم أهل جهل وظلم كأهل البدع المشهورة من ذوي المقالات والعبادات ، وذوي الجهل والجور من القضاة والولاة .

وكانت سيرة أبي بكر وعمر رضي الله عنهما في غاية الاستقامة والسداد ، بحيث لم يمكن الخوارج أن يطعنوا فيهما فضلا عن أهل السنة . وأما عثمان وعلي رضي الله عنهما فهما من الخلفاء الراشدين والأئمة المهديين ، وسيرتهما سيرة العلم والعدل والهدى والرشاد والصدق والبر ، لكن فيهما نوع مجتهد فيه ، والمجتهد فيما اجتهد فيه إن أصاب فله أجران ، وإن أخطأ فله أجر ، وخطؤه مغفور له ، فاجتهاد الخلفاء أعظم وأعظم .

وأما عثمان فحصل منه اجتهاد في بعض قسم المال والتخصيص به ، وفي بعض العقوبات هو فيها رضي الله عنه مجتهد ، والعلماء منهم من يرى رأيه ، ومنهم من لا يراه . وعلي رضي الله عنه حصل [ ص: 391 ] منه اجتهاد في محاربة أهل القبلة ، والعلماء منهم من يرى رأيه ، ومنهم من لا يراه . وبكل حال فإمامتهما ثابتة ، ومنزلتهما من الأمة منزلتهما ، لكن أهل البدع الخوارج الذين خرجوا على عثمان وعلى علي جعلوا آراءهم وأهواءهم حاكمة على كتاب الله وسنة رسوله وسيرة الخلفاء الراشدين ، فاستحلوا بذلك الفتنة وسفك الدماء وغير ذلك من المنكرات .

التالي السابق


الخدمات العلمية