الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وأما جمهور أرباب الأثارة فسوطيهم بالقياس وأهله يرد عليهم ، ثم كثير ما يسمعونه من اعتراف أهل القياس المخالفين لهم بالحيرة والتردد ، وما يسمعونه عنهم ومنهم من الخصام والتلدد ، وما يقترن به من شهادة عموم الأمة التي لا تشهد إلا بحق ، وما يخبر به أهل [ ص: 62 ] البر والتقوى الذي أشربت القلوب لهم خالص المودة من سوء حال هذا وحسن حال هؤلاء ، وما يرى ويسمع من البشرى التي وعد الله بها أولياءه في الحياة الدنيا من المبشرات المنامية ولسان الصدق المنشور ، وغير ذلك من الأسباب الكثيرة التي توجب رجحان موازينهم وخفة موازين مخالفيهم ، صارت تثبت أفئدتهم وتزيد إيمانهم وتدفع عنهم شؤم المعارضات .

والأمر كما أصف وفوق ما أصف ، وكان حصل عندي من هذا ما حصل ، فاجتمع لي من مدة عشر سنين أو قريب منها أو أكثر من قال لي ، فلما كان في هذه الأوقات حدث من الأسباب ما اقتضى أن وقف على حكاية هذه المناظرة أحد الفضلاء المبرزين والنبلاء المتبحرين ، عين أعيان المناظرين وفرسان المتكلمين ومن تتبين الفوائد بمذاكرته وتستفاد المقاصد بمناظرته ، فعلق عليها من الأسولة ما التمس حلها ، ومن المباحث ما اقتضى فرعها وأصلها

قلت في حكاية المناظرة : "قال لي بعض الناس : إذا أردنا أن نسلك سبيل السلامة والسكوت ، وهي الطريق التي تصلح عليها العامة ، قلنا كما قال الشافعي رضي الله عنه : آمنت بالله وما جاء عن الله على مراد الله ، وآمنت برسول الله وما جاء عن رسول [الله] على مراد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . وإذا سلكنا طريق البحث والتحقيق فإن الحق مذهب من يتأول آيات الصفات وأحاديث الصفات من المتكلمين . [ ص: 63 ]

فقلت له : أما ما قاله الشافعي فإنه حق يجب على كل مسلم أن يقوله ويعتقده ، ومن اعتقده ولم يأت بقول يناقضه فإنه سالك سبيل السلامة في الدنيا والآخرة . وأما إذا بحث الإنسان وفحص وجد ما يقوله المتكلمون من التأويل الذي يخالفون به أهل الحديث كله باطلا ، وتيقن أن الحق مع أهل الحديث ظاهرا وباطنا . فاستعظم ذلك وقال ...........

قال الفاضل الباحث على قولنا "إذا بحث الإنسان وفحص وجد ما يقوله المتكلمون من التأويل الذي يخالفون به أهل الحديث باطلا" : الكلام على [هذا] من ثلاثة أوجه :

أحدها : القول الموجب ، فإن المخالفة القول بما يخالف قولهم ويناقضه ، لا القول بما لم يصرحوا بنفيه ولا بإثباته ، ولا أسلم أن المعتبرين من المحدثين منعوا تأويل المعتبرين من المتكلمين ، فإن نقل ما ظاهره ذلك حملناه على التأويل بغير دليل أو على غير القواعد العلمية ، توفيقا بين العلماء وصيانة لهم عن تخطئة بعضهم . وبالجملة فلا أسلم أن معتبرا حرم تأويلا يشهد العقل بصحته عند الحاجة إليه ، لعالم متبحر لا يرضى بأسر التقليد ، ولا يرى أن يستعمل في كتب الحقائق نور الحقائق الذي هو من أجل نعم الله على العباد .

فإن قيل : فقد اشتهر النهي عن الكلام في التأويل . [ ص: 64 ]

قلت : لعل ذلك للعوام ، أو على طريق الورع لا التحريم ، لم قلتم إن الأمر ليس كذلك؟

والوجه الثاني : لو سلمنا أن بعضهم حرم ذلك ، فهل نقل التحريم عن نص الله أو عن نص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو عن إجماع الأمة؟ فإن الحجة ليست في قول البعض ، لا سيما إذا خالفوا البعض الآخر .

الوجه الثالث : أنا ننقل عنهم الإجماع على التأويل في بعض المواضع على ما سيأتي ، ونطالب بالفرق .

والجواب -ولا حول ولا قوة إلا بالله- من مقامين :

المقام الأول : في بيان أن هذه الأسولة هل هي متوجهة واردة يجب الجواب عنها أم لا؟

والثاني : في التبرع بالجواب بتقدير عدم وجوبه .

أما المقام الأول

فيمكن أن يقال : نحن نطالبكم بتوجيه هذه الأسولة ، فإنه ليس منها شيء واردا ، فضلا عن أن يستوجب جوابا .

أما القول بالموجب فعليه أولا مناقشة معروفة ، وهو أن القول بالموجب إنما يرد على الأدلة دون الدعاوي ، فإن الدليل الصحيح يجب القول بموجبه ، ولهذا قيل : إن القول بالموجب سؤال يرد على كل دليل . لكن المعترض يدعي أنه يقول بموجب دليل المستدل من غير التزام لدعواه ، ببيان عدم دلالته على محل النزاع ، [ ص: 65 ] وحاصله أنه يمنع دلالة الدليل على محل النزاع ، ويضيف إلى ذلك أنه قائل بموجبه ، وموجبه غير محل النزاع ، فالقول بالموجب إبداء لسند المنع .

أما الدعوى قبل ذكر دليلها ، فإذا قيل بموجبها ، بأن كان قولا بموجب قصد المدعي ، فهو موافقة في المسألة وليس باعتراض ، فإن من قال : لا يقتل مؤمن بكافر ، فقيل له : تقول بموجب هذا؟ أي تقول بما قصدته بهذه العبارة ، كان هذا وفاقا لا سؤالا ، وإن كان قولا بموجب لفظه لا يوجب معناه ، بأن يكون اللفظ مشتركا أو مجملا ونحو ذلك ، فيقال بموجبه الذي لم يقصده المدعي ، مثل أن يقال فيما إذا ادعى لا يقتل مؤمن بكافر : تقول بموجبه في الحربي والمستأمن؟ كان هذا كلاما قليل الفائدة ، ولم يعد من الأسولة الواردة ، بل يعد من المناقشات اللفظية إن لم يكن ظاهر اللفظ ينفي القول بالموجب . فإنه يقال له : لم تحرر الدعوى ، بل ادعيت الذي ادعيت بلفظ مجمل أو مبهم بخلاف مقصودك . فأما إن كان ظاهره ينفي القول بالموجب فلا مناقشة فيه أصلا . ثم إذا توجهت المناقشة اللفظية من الناس من يترك مثل هذا السؤال ويقول : هو خروج عن مقصود المسألة ، والكلام فيها كأنه بمنزلة مناقشة المتكلم على لفظ قد لحن فيه . ومنهم من يورده ويعده من ضبط آداب المناظرة ، والأمر في ذلك قريب .

التالي السابق


الخدمات العلمية