الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وكل تأويل فإنما هو بيان مقصود المتكلم أو مراده بكلامه ، ومعلوم أن العقل وحده لا يشهد بمعرفة مقصود المتكلم ومراده ، فإن دلالة الخطاب سمعية لا يستقل بها العقل ، نعم العقل أخذ باستفادته هذه الدلالة ، فإذا انضم [إلى] المعقول العلم بلغة المتكلم وعادته في خطابه فقد يحصل بمجموع هذين العلمين العلم بتأويل كلامه ، نعم قد يعلم بالعقل وبأدلة أخرى أن المتكلم لم يرد معنى من المعاني ، سواء قيل : إنه ظاهر اللفظ ، أو قيل : إنه ليس بظاهره ، كما يعلم أن الله لم يرد بقوله : وأوتيت من كل شيء أنها أوتيت ملك [ ص: 85 ] السماوات وملك سليمان وفرج الرجل ولحيته; ولم يرد بقوله : تدمر كل شيء أنها تدمر السماوات والجنة والنار; ولم يرد بقوله : وخلق كل شيء شمول ذلك للخالق بصفاته . ونعلم أن الله لم يرد بقوله : خلقت بيدي يدين مثل يدي الإنسان ، ولم يرد بقوله : ليس كمثله شيء نفي الصفات المذكورة في الكتاب والسنة .

فإذا كان العقل وحده يشهد بصحة تأويل ، وإنما قد يشهد بعدمه ، فالتأويل الذي يدعي صاحبه أنه علم بمجرد العقل صحته تأويل مردود محرم . نعم إن فسرتم كلامكم أن العقل بما استفاده من العلوم السمعية وغيرها يعلم صحة التأويل ، فهذا حق وإن لم يكن ظاهر اللفظ دالا عليه ، ونحن ما حكينا تحريم مثل هذا التأويل عن أحد ، ولا يمنع تحريمه كلام آخر .

وسنتكلم -إن شاء الله- عليه متبرعين ، فإن الغرض تقرير الحقائق وتحصيل الفوائد ، لا ما يقصده المبطلون من التجاهل والتعاند .

ونقول رابعا : قولكم "عند الحاجة إليه" موافقة لما يقوله كثير من الناس من [أن] التأويل اضطر إليه العلماء ، وبيان ذلك أنا إذا علمنا بالأدلة العقلية والسمعية مثلا انتفاء أمر من الأمور ، ورأينا بعض [ ص: 86 ] النصوص تقتضي إثباته ظاهرا ، احتجنا إلى تأويله ، لأنا إن قلنا بمقتضى الدليلين لزم الجمع بين النقيضين ، وإن قلنا بنفيهما لزم انتفاء النقيضين ، ثم فيه تعطيل الدليلين من دلالتهما ، ومحذور التأويل جزء من هذا المحذور ، إذ غايته تعطيل دلالة أحدهما ، فلا بد من ثبوت أحدهما وانتفاء الآخر ، ولا يجوز أن يقدم الدليل المثبت لأنه ظاهر ، والنافي قطعي ، والقطعي لا يجوز تخلف مدلوله عنه ، بخلاف الظني . فتعين إثبات مدلول الدليل القطعي دون الظاهر .

ولأن القطعي إذا كان عقليا ، فلو رجحنا عليه الظاهر السمعي لزم القدح في ذلك الدليل العقلي ، والعقل أصل السمع ، فالقدح في العقلي القطعي قدح في أصل السمعي ، والقدح في الأصل قدح في فرعه ، فيصير تقديم السمعي قدحا في السمعي ، وإثبات الشيء بما يقتضي نفيه محال . وإذا تعين إثبات مدلول القطعي العقلي دون الظاهر السمعي ، فنحن بين أمرين : إما أن نفوض معنى الظاهر إلى الله سبحانه وتعالى ، مع علمنا بانتفاء دلالته الظاهرة ، أو أن نؤوله على وجه يسوغ في الكلام .

والقائلون بهذا التقرير يسمون طريق المفوضة النفاة طريق السلف ، وهو عندهم طريق أهل الحديث وأحد قولي الأشعري وغيره من أهل الكلام . ثم هم في هذا على أقوال :

فغلاة المتكلمين يحرمون هذا ويوجبون التأويل ، وذهب إلى هذا ابن عقيل في أحد أقواله ، وهو قول أكثر المعتزلة وكثير من الأشعرية ، ومن هؤلاء من يفيد كلامه بأنه يجب على العلماء دون العامة . [ ص: 87 ]

ومنهم من يحرم التأويل ، كأبي المعالي الجويني في آخر قوليه .

ومنهم من يحرمه على أكثر الخلق إلا على القليل ، كأبي حامد الغزالي وغيره .

ومنهم من يسوغ كل واحد من التفويض والتأويل ، ويعد هذا من العلوم التطوعية التي لا تجب ولا تحرم ، كالعلم بأحاديث الملاحم والفتن وأخبار الأمم والأحاديث الإسرائيليات ، والأحاديث المتضمنة لأوصاف الملائكة والجن ونحو ذلك ، وإن كانت هذه العلوم قد يكون ضبطها فرضا على الكفاية .

منعكم أن التأويل قد تدعو الحاجة إليه كما تقدم ، فلا يحرم على العالم المتبحر لوجوه :

أحدها : أن لا موجب لتحريمه ، والأصل الإباحة ، فمن ادعى التحريم فعليه الدليل .

الثاني : أن هذا من باب طلب العلم ومعرفة مراد الله ورسوله ، وجنس العلم خير من جنس الجهل ، فكيف العلم بتأويل كلام الله وكلام رسوله؟ كيف يكون هذا محرما؟

الثالث : أن المخالف للحق من الكفار والمبتدعة إن لم نتأول لهم هذه النصوص لزم سوء الظن بالرسول - صلى الله عليه وسلم - ، ووقوع شبهة [ ص: 88 ] الاختلاف في كلام الله وكلام رسوله ، ونفور الناس عن القرآن والإسلام ، ونفور أهل الباطل عن الحق . والتأويل هو أسرع إلى القبول وأدعى إلى الانقياد ، فأقل أحواله أن يكون بمنزلة تعليل الأحكام الشرعية المنصوصة ، فإن التعليل فيه فائدة الاطلاع على حكمة الشارع التي يحصل بسببها من العلم والإيمان ما لا يحصل بدونها ، مع أن الحاجة لا تدعو إليها ، فكيف بتأويل الخطاب الذي عارض ظاهره القواطع العقلية والسمعية .

الرابع : أن الطالب الذكي يضيق صدره بأسر التقليد ، ويحب أن يخرج إلى بحبوحة العلم ، فلا تقنع نفسه ويرضى عقله إلا بالوقوف على التأويل ، وهو بدونه يعتور عقله الشبهات وصدره الحرج والضيق ، فإذا عرف التأويل اطمأن قلبه وانشرح صدره ورضي عقله ، والبدن لو احتاج إلى طعام وشراب لغذاء أو دواء يحصل له الضرر بفقده لأباحه الله له ، بل قد أباح الأكل في الصوم الواجب للمريض والمسافر إذا وجد مشقة بالصوم ، وأباح ترك القيام في الصلاة إذا خاف زيادة المرض أو لطول البرء . فكيف لا يبيح ما يضر عدمه القلوب لعقولها والنفوس لوجودها ، ويزيد بعدمه مرض القلب والدين ، أو يتأخر بفقده الشفاء من مرض الكفر والنفاق . وكما أن الأطعمة والأشربة تختلف شهوة الناس وحاجتهم إليها باختلاف قواهم وأمزاجهم ، فرب مزاج يقرم إلى اللحم ما لا يقرمه غيره ، ومن كان مقيما بطيبة إبان الجداد كانت شهوته إلى الرطب بخلاف شهوة سكان الشام ، ومن كانت رياضته البدنية أقوى وأكثر -كالحمالين والحراثين- كانت حاجتهم إلى الطعام أشد . [ ص: 89 ]

كذلك العلوم والطرق ، فمن كان ذكيا كان شوقه إلى درك الأمور الدقيقة أشد ، ومن راض عقله بكثرة النظر في العلوم والبحث عن أسبابها وأصنافها كانت حاجته إلى الازدياد منها والوقوف عليها أشد . والمتعمقون في الكتاب والسنة ولو في الأحكام فقط يحصل لهم من الحاجة والشوق إلى معرفة معاني كثير من النصوص ما لا يحصل لغيرهم من المعرضين . وإذا كان نقل الواجب والمستحب قد يستلزم الحاجة والشوق إلى أشياء ، فكيف يحرم؟ وإنما الشوق بحسب الإدراك . ولهذا من لم ير المطاعم الشهية والمناظر البهية لا يشتهيها كشهوة المبتلى بها . فمن لم تنفتح عين بصيرته لصنوف المعارف ، ولا توسعت في قلبه أنواع المعالم ، لا يحتاج إلى الإدراك كحاجة أولي البصائر الوقادة والمعارف المستفادة ، ولا يشتاق كاشتياقهم . وهذا تقرير قول السائل -أيده الله- : "لعالم متبحر لا يرضى بأسر التقليد" .

الخامس : أن نعمة الله على عباده بنفوذ البصيرة من أفضل النعم ، وإدراك حقيقة مراد الله ورسوله من أفضل إدراك الحقائق ، فكيف يحرم استعمال هذه النعمة الجليلة في مثل هذا المطلوب الشريف؟ وهل ذلك إلا أقبح من تحريم استعمال قوى الأبدان في دفع أعداء الدين وعبادة رب العالمين ، وتحريم إنفاق الأموال في سبيل الله . بل تحريم هذا تحريم لطلب الدرجات العلى والنعيم المقيم ، والله لا يحرم مثل هذا ، بل يستحبه إن لم يوجبه .

السادس : أن إبقاء النصوص المصروفة عن دلالتها الظاهرة بلا تأويل معين بنفيها ذريعة إلى اعتقاد موجبها وتقلد مقتضاها . وتأويلها [ ص: 90 ] يحسم هذه المادة ، فيصير الأول مثل بناء الأسوار للأمصار ، والثاني كتركها بلا سور . بل الأول بمنزلة كشف النساء الحسان لوجوههن ، والثاني كسترها ، أو الأول بمنزلة ترك المردان الصباح يعاشرون الأجانب ، والثاني كصونهم من هذه العشرة . فإن لم يكن الثاني واجبا أو مستحبا فلا أقل من أن يكون مباحا .

وهذا معنى قول بعض الناس: طريقة السلف أسلم ، وطريقة الخلف أحزم وأحكم; لأن طريقة أهل التأويل فيها مخاطرة بالإخبار عن مراد الله بالظن ، الذي يجوز أن يكون صوابا ويجوز أن يكون خطأ ، وذلك قول عليه بما لا يعلم ، والأصل تحريم القول عليه بالظن ، وكان تركها أسلم . وفي طريقة أهل التأويل حسم مواد الاعتقادات الفاسدة والشبهات الواردة ، فكانت أحزم وأحكم .

وصار في المثال بمنزلة قوم من المسلمين بلغهم أن العدو قاصدهم ، وبيت المال خال ، فهل يسوغ أن يجمع من أموالهم ما يبني به سورهم لحفظهم من العدو إلى لحوق الذرى ، واندفاع العدو بشدة البرد المخاطرة بأخذ الأموال بغير طيب نفوس أصحابها ، وفيه إحكام الحفظ للنفوس وباقي الأموال ، والحزم بضبط الدين عن الانحلال .

وهب هذه مسألة اجتهادية يرى فيها قوم الحظر ، وقوم الوجوب ، وقوم يخيرون بين الأمرين ، وقوم يوجبون فعل الأصلح . ويختلف الأصلح باختلاف الأعصار والأمصار والأشخاص . [ ص: 91 ]

السابع : أن السلف تكلموا في تفسير القرآن كله ، وما رأيناهم حرموا تفسير شيء منه ، إلا أن ينقل عن أحدهم أنه ترك القول فيه ، أو حرم القول على غيره بغير علم ، أو تركه خوف الخطأ على سبيل الورع ونحوه . وكتب التفسير مشحونة بالروايات عن الصحابة والتابعين في آيات الصفات وغيرها ، فكيف يدعي هذا أن المعتبرين حرموا ذلك؟

التالي السابق


الخدمات العلمية