الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وقال أيضا : ما أسهل العبادة بمكة ، النظر إلى البيت عبادة .

واحتج هؤلاء بما رواه عبد الله بن عدي بن الحمراء الزهري أنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول ، وهو واقف بالحزورة في سوق مكة : "والله إنك لخير أرض الله ، وأحب أرض الله [إلى الله] ، ولولا أني أخرجت منك ما خرجت" رواه الإمام أحمد وهذا لفظه ، والنسائي وابن ماجه والترمذي ، وقال : حديث حسن صحيح .

ورواه أحمد من حديث أبي هريرة أيضا . وعن ابن عباس قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "ما أطيبك من بلد وأحبك إلي ، ولولا أن قومي أخرجوني منك ما سكنت غيرك" . رواه الترمذي ، وقال : حديث حسن صحيح غريب . [ ص: 344 ]

قالوا : فإذا كانت أحب البلاد إلى الله ورسوله ، ولولا ما وجب عليه من الهجرة لما كان يسكن إلا إياها ، علم أن المقام بها أفضل إذا لم يعارض ذلك مصلحة راجحة ، كما كان في حق النبي - صلى الله عليه وسلم - والمهاجرين; فإن مقامهم بالمدينة كان أفضل من مقامهم بمكة لأجل الهجرة والجهاد ، بل ذلك كان الواجب عليهم ، وكان مقامهم بمكة حراما حتى بعد الفتح ، وإنما رخص للمهاجر أن يقيم فيها ثلاثا . كما في الصحيحين عن العلاء بن الحضرمي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أرخص للمهاجر أن يقيم بمكة بعد قضاء نسكه ثلاثا .

وكان المهاجرون يكرهون أن يكونوا بها ، لكونهم هاجروا عنها وتركوها لله ، حتى قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث المتفق عليه ; لما عاد سعد بن أبي وقاص ، وكان قد مرض بمكة في حجة الوداع فقال : يا رسول [الله] ! أخلف عن هجرتي ، فقال : "لعلك أن تخلف حتى ينتفع بك أقوام ، ويضر بك آخرون ، لكن البائس سعد بن خولة" يرثي له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن مات بمكة .

ولهذا لما مات عبد الله بن عمر بمكة أوصى أن لا يدفن في الحرم ، بل يخرج إلى الحل لأجل ذلك ، لكنه كان يوما شديد الحر ، فخالفوا وصيته ، وكان قد توفي عام قدم الحجاج ، فحاصر ابن الزبير وقتله لما كان من الفتنة بينه وبين عبد الملك بن مروان . [ ص: 345 ]

قالوا : ولأن في المجاورة بها من تحصيل العبادات وتضعيفها ما لا يكون في بلد آخر ، فإن الطواف بالبيت لا يمكن إلا بمكة وهو من أفضل الأعمال ، ولأن الصلاة بها تضاعف هي وغيرها من الأعمال . وقد قال تعالى : وطهر بيتي للطائفين والقائمين والركع السجود . روي أنه ينزل على البيت في كل يوم مئة وعشرون رحمة : ستون للطائفين ، وأربعون للمصلين ، [وعشرون للناظرين] .

ولهذا قال العلماء : إن الصلاة بمكة أفضل من الصلاة بالثغر ، مع قولهم : إن المرابطة بالثغر أفضل وتضاعف السيئات فيه ، وإذا كان المكان دواعي الخير فيه أقوى ، ودواعي الشر فيه أضعف ، كان المقام فيه أفضل مما ليس كذلك .

التالي السابق


الخدمات العلمية