الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وأما من بعد الخلفاء الراشدين فلهم في تفاصيل قبض الأموال وصرفها طرق متنوعة :

منها ما هو حق منصوص موافق للكتاب والسنة والخلفاء الراشدين .

ومنها ما هو اجتهاد يسوغ بين العلماء ، وقد يسقط الوجوب بأعذار ، ويباح المحظور بأسباب ، وليس هذا موضع تفصيل ذلك .

ومنها ما هو اجتهاد ، لكن صدوره لعدوان من المجتهد وتقصير منه ، شاب الرأي فيه الهوى ، فاجتمعت فيه حسنة وسيئة . وهذا النوع كثير جدا .

ومنه ما هو معصية محضة لا شبهة فيه بترك واجب أو فعل محرم .

وهذه الأنواع الأربعة موجودة في عامة تصرفاتهم من الحكم والقسم والعقوبات وغير ذلك ، إما أن يوافق سنة الخلفاء أو لا يوافق ، والذي لا يوافق إما أن يكون معذورا فيه كعذر العلماء المجتهدين [ ص: 392 ] أو لا يكون كذلك ، والذي لا يكون معذورا فيه عذرا شرعيا إما أن يكون فيه شبهة واجتهاد مع التقصير والعدوان أو لا يكون فيه شبهة ولا تأويل .

ولم أعلم أن في الدولة الأموية وصدر الدولة العباسية وظفوا على الناس وظائف تؤخذ منهم غير الوظائف التي هي مشروعة في الأصل ، وإن كان التغيير قد وقع في أنواعها وصفاتها ومصارفها ، نعم كان السواد مخارجة عليه الخراج العمري ، فلما كان في دولة المنصور -فيما أظن- نقله إلى المقاسمة ، وجعل المقاسمة تعدل المخارجة كما فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - بخيبر . وهذا من الاجتهادات السائغة .

وأما استئثار ولاة الأمور بالأموال والمحاباة بها فهذا قديم ، بل قال - صلى الله عليه وسلم - للأنصار : "إنكم ستلقون بعدي أثرة ، فاصبروا حتى تلقوني على الحوض" . وقد أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - بحال الأمراء بعده في غير حديث ، وكان الخلفاء هم المطاعين في أمر الحرب والقتال وأمر الخراج والأموال ، ولهم عمال ونواب على الحروب ، وعمال ونواب على الأموال ، ويسمون هذه ولاية الحرب وهذه ولاية الخراج .

ووزراؤهم الكبار ينوبون عنهم في الأمرين إلى أثناء الدولة العباسية بعد المائة الثالثة ، فإنه ضعف أمر خلافة بني العباس وأمر وزرائهم بأسباب جرت ، وضيعت بعض الأموال ، وعصى عليهم قوم من النواب [ ص: 393 ] بتفريط جرى في الرجال والأموال . فذكر ثابت بن سنان بن ثابت بن قرة فيما علمته من "التاريخ" أنه في سنة أربع وعشرين وثلاث مئة فوض الراضي الخليفة الإمارة ورئاسة الجيش وأعمال الخراج وتدبير سائر المملكة إلى مقدم اسمه محمد بن رائق ، وجعله أمير الأمراء ، وأمر بأن يخطب له على سائر منابر المملكة ، ولم يكن قبل ذلك شيء من ذلك .

قال : وبطل قبل ذلك أمر الوزارة ، فلم يكن الوزير ينظر في شيء من النواحي ولا الدواوين ، ولا كان له اسم غير اسم الوزارة فقط ، وأن يحضر في أيام المواكب دار السلطان بسواد وسيف ومنطقة ، ويقف ساكنا . وصار ابن رائق وكاتبه ينظران فيما كان الوزراء ينظرون فيه ، وكذلك كل من تقلد الإمارة بعد ابن رائق ، وصارت أموال النواحي تحمل إلى خزائن الأمراء ، فيأمرون فيها وينفقون منها ، ويطلقون لنفقات السلطان ما يريدون ، وبطلت بيوت الأموال .

التالي السابق


الخدمات العلمية