والمقصود أن هذا العالم لما لم يكن مقصوده إلا الدنيا بما علمه [ ص: 267 ] من العلم وبما يعلمه ، وذلك مما يبتغى به وجه الله ، لم يكن له عند الله قيمة ، ولم يكن للعلم في قلبه حلاوة ، ولم يرتع في رياض الجنة في الدنيا ، وهي مجالس الذكر ، فلم يرح رائحة الجنة . فالأول ، فكان عقوبته أن لا يجد رائحة الجنة . طلب العلم لكسب الأموال والجاه
والثاني طلبه لمقاصد مذمومة من المباهاة والمماراة وصرف وجوه الناس ، فكان جنس مطلوبه محرما ، فلقي الله وهو عليه غضبان .
والأول جنس مطلوبه مباح ، فلم يجد رائحة الجنة في الدنيا ، فلم يرتع في رياضها ، فقلبه محجوب عنها بما فيه من طلب الدنيا .
وفي حديث المرسل : "من أخلص لله العبادة أربعين صباحا تفجرت ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه" . وحكي عن مكحول أبي حامد قال : أخلصت لله أربعين صباحا فلم يفجر لي شيء ، فذكرت ذلك لبعض أهل المعرفة ، فقال : إنك لم تخلص لله ، وإنما أخلصت للحكمة .
وكذلك الحكاية المشهورة عن في ذلك الرجل الذي كان يتعبد ليراه الناس وليقال ، فكان الناس يذمونه ، ثم أخلص لله ولم يغير عمله الظاهر ، فألقى الله له المحبة في قلوب الناس ، كما قال تعالى : الحسن إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن ودا . [ ص: 268 ]
وإذا كانت العبادة تبقى ببقاء معبودها فكل معبود سوى الله باطل ، فلا تبقى النفس ، بل تضل وتشقى بعبادة غير الله شقاء أبديا ، كما قال تعالى : ومن يشرك بالله فكأنما خر من السماء فتخطفه الطير أو تهوي به الريح في مكان سحيق . إنما كان بقاؤها ببقاء معبودها لأنها مريدة بالذات ، فلا بد لها من مراد محبوب هو إلهها الذي تبقى ببقائه ، فإذا بطل بطلت وتلاشى أمرها ، وما ثم باق إلا الله . والأفلاك وما فيها كله يستحيل ، والملائكة مخلوقون يستحيلون ، بل ويموتون عند جمهور العلماء .
والعبد ينتفع بما خلق بشيء من حيث هي من آيات الله له فيها ، فهي وسيلة له إلى معرفة الله وعبادته ، ولو كان العلم هو الموجب لما يطلبه هؤلاء لكان هو العلم بالله ، فإنه هو الحق ، وما سواه باطل ، ومن له من مخلوقاته فالعلم به تابع للعلم بالله ، والعلم الأعلى هو العلم بالأعلى . كما قال : سبح اسم ربك الأعلى ، فهو رب كل ما سواه ، فهو الأصل ، فكذلك العلم به سيد جميع العلوم وهو أصل لها .