وكذلك تنازعوا في دوام الحدوث ووجود ما لا يتناهى منها في الماضي والمستقبل : هل هو ممتنع في الماضي والمستقبل؟ كما يقوله الجهم وأبو الهذيل ، أو هو جائز في المستقبل ممتنع في الماضي؟ كما يقوله كثير من المتكلمين ، أم هو جائز فيهما ، كما يقوله أئمة أهل الملل وأئمة الفلاسفة ، لكن أئمة أهل الملل لا يجوزون ذلك إلا في قديم واحد ، لا يجوزون أن يكون شيئان كل منهما قديم أزلي يقوم به حوادث لا بداية لها ولا نهاية ، فيكون ما لا يتناهى لا في الماضي ولا في المستقبل قابلا لأن يزاد عليه .
وهذا المحال إنما يلزم من قال بقدم الأفلاك ، وأما أئمة أهل السنة -كالصحابة والتابعين لهم بإحسان ومن سلك سبيلهم من أئمة المسلمين- فهؤلاء أتوا بخلاصة المعقول والمنقول ، إذ كانوا عالمين بأن ، وأنها متلازمة ، فمن أعطى الأدلة العقلية اليقينية حقها من النظر التام علم أنها موافقة لما أخبرت به الرسل ، ودلته على كلا من الأدلة السمعية والعقلية حق فيما أخبروا به . ومن أعطى الأدلة السمعية حقها من الفهم علم أن الله أرشد عباده في كتابه إلى الأدلة العقلية اليقينية ، التي بها يعلم وجود الخالق وثبوت صفات الكمال له ، وتنزهه عن النقائص وعن أن يكون له مثل في شيء من صفات الكمال ، و [التي تدل] على [ ص: 288 ] وحدانيته ووحدانية ربوبيته ووحدانية إلهيته ، وعلى قدرته وعلمه وحكمته ورحمته ، وصدق رسله ووجوب طاعتهم فيما أوجبوا وأمروا ، وتصديقهم فيما أعلموا به وأخبروا ، وأنهم كملوا بما أوتوا من الهدى ودين الحق للعباد ما كانت تعجز مجرد عقولهم عن بلوغه . وجوب تصديق الرسل
إذ كانت طرق العلم ثلاثة : الحس ، والنظر ، والخبر . فأتباعهم جمع الله لهم غاية الفضائل العلمية والعملية ، ولهذا كانت محمد - صلى الله عليه وسلم - خير أمة أخرجت للناس ، فإن الله جمع لهم من الفضائل ما فرقه في غيرهم من الأمم ، فجمعوا إلى ما خصهم الله به ما كان عند غيرهم من أهل الكتاب ومن أمة فلاسفة اليونان والفرس والهند وغيرهم .