فلما كان ، علموا أنه يمتنع أن تكون متعارضة ، فإن الأدلة القطعية اليقينية يمتنع تعارضها ، لوجوب ثبوت مدلولها ، فلو تعارضت لزم إما الجمع بين النفي والإثبات ، وإما رفعهما . والنقيضان لا يجتمعان ولا يرتفعان . لكن جاء بعدهم من أهل الكلام من قصر في معرفة ما جاء به الرسول وما يوجبه النظر المعقول ، فظنوا في أقوال الرب وأفعاله في مسألة حدوث العالم وغيرها ظنونا مخطئة ، ليست مطابقة لخبر الرسل ولا لموجب العقل ، وصار يظن من لا يعرف دين الرسل أن هذا هو دينهم ، ورأوا في ذلك ما يناقض صريح العقل . السلف عالمين بحقائق الأدلة العقلية والسمعية وأنها متلازمة
فكان هذا من أسباب اضطراب الناس في أمر الرسل :
فطائفة تقول : إنما جاءوا في العلوم الإلهية بطريق التخييل وخطاب الجمهور .
وطائفة تقول : بل جاءوا بطريق لا يدل على المقصود ، بل يشعر بنقيضه ، ليعرف الناس الحق بأنفسهم لا من جهة الأنبياء . ثم يتأولون ما قالته الأنبياء على ما عندهم .
وطائفة تقول : فيما جاءت به الأنبياء متشابه لا يعلم معناه لا الأنبياء ولا غيرهم ، ظنوا أن الوقف على قوله وما يعلم تأويله إلا الله ، وأنه إذا كان الوقف على هذا فالمراد بالتأويل صرف اللفظ [ ص: 291 ] عن الاحتمال الراجح إلى الاحتمال المرجوح . وصار من هؤلاء من يقول : هذه الألفاظ تجرى على ظاهرها ، ولا يعلم تأويله إلا الله ، فيجمع بين النقيضين .
ولم يعلموا أن لفظ "التأويل" بحسب تعدد الاصطلاحات صار مشتركا في ثلاثة معان :
معناه في القرآن هو ما يؤول إليه الكلام وإن وافق ظاهره ، كقوله تعالى : هل ينظرون إلا تأويله يوم يأتي تأويله يقول الذين نسوه من قبل قد جاءت رسل ربنا بالحق . وهذا التأويل لا يعلمه إلا الله ، كوقت الساعة .
ويراد بالتأويل نفس الكلام وما قصد إفهام الناس إياه ، وهذا التأويل يعلمه الراسخون في العلم . ولا يجوز أن ينزل الله كتابا يأمر بتدبره وعقله ، وقد فسره النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه كله للمسلمين ، ويكون فيه ما لا يعلم تفسيره لا النبي ولا أحد من أمته .
ويراد بالتأويل تحريف الكلم عن مواضعه ، وتفسير الكلام بغير مراد المتكلم ، كتحريف أهل الكتاب لما حرفوه من الكتاب ، وتحريف الملاحدة وأهل الأهواء لما حرفوه من معاني هذا الكتاب . وهذا تأويل باطل يعلم الله أنه باطل ، لا أنه يعلم أنه حق ، كما قال تعالى : قل أتنبئون الله بما لا يعلم في السماوات ولا في الأرض . فإنه سبحانه [ ص: 292 ] يعلم الأشياء على ما هي عليه ، يعلم الموجود موجودا والمعدوم معدوما ، فما كان معدوما لا يعلمه موجودا . وهذا باب واسع .