كما في "السنن" عن والجهاد في سبيل الله أنواع متعددة . . . سبيل الله ، ويفرق بينهما النية واتباع الشريعة . عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : معاذ . "الغزو غزوان : فأما من ابتغى وجه الله ، وأطاع الإمام ، وأنفق الكريمة واجتنب الفساد; فإن نومه [ونبهه] كله أجر . وأما من غزا فخرا ورياءا وسمعة ، وعصى الإمام ، وأفسد في الأرض; فإنه لم يرجع بالكفاف"
وفي الصحيحين رضي الله عنه قال : قيل : يا رسول الله! الرجل يقاتل شجاعة ويقاتل حمية ، فأي ذلك في سبيل الله؟ فقال : "من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله" أبي موسى الأشعري . وقد قال تعالى : عن وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله .
وهذه المسألة هي في الرجل أو الطائفة يقاتل منهم أكثر من ضعفيهم ، إذا كان في قتالهم منفعة للدين ، وقد غلب على ظنهم [ ص: 312 ] أنهم يقتلون ، كالرجل يحمل وحده على صف الكفار ويدخل فيهم ، ويسمي العلماء ذلك فإنه يغيب فيهم كالشيء ينغمس فيه فيما يغمره . الانغماس في العدو;
وكذلك الرجل يقتل بعض رؤساء الكفار بين أصحابه ، مثل أن يثب عليه جهرة إذا اختلسه ، ويرى أنه يقتله ويقتل بعد ذلك .
والرجل ينهزم أصحابه فيقاتل وحده أو هو وطائفة معه العدو ، وفي ذلك نكاية في العدو ، ولكن يظنون أنهم يقتلون .
فهذا كله جائز عند عامة علماء الإسلام من أهل المذاهب الأربعة وغيرهم ، وليس في ذلك إلا خلاف شاذ . وأما الأئمة المتبعون كالشافعي وغيرهما فقد نصوا على جواز ذلك . وكذلك هو مذهب وأحمد أبي حنيفة وغيرهما . ومالك
ودليل ذلك الكتاب والسنة وإجماع سلف الأئمة .
أما الكتاب فقد قال الله تعالى : ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله والله رءوف بالعباد . وقد ذكر أن سبب نزول هذه الآية خرج مهاجرا من صهيبا مكة إلى المدينة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فلحقه المشركون وهو وحده ، فنثل كنانته ، وقال : والله لا يأتي رجل منكم إلا رميته . فأراد قتالهم وحده ، وقال : إن أحببتم أن تأخذوا مالي بمكة فخذوه ، وأنا أدلكم عليه . ثم قدم [ ص: 313 ] على النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : "ربح البيع أبا يحيى" . أن
وروى بإسناده أن رجلا حمل وحده على العدو ، فقال الناس : ألقى بيده إلى التهلكة ، فقال أحمد : كلا بل هذا ممن قال الله فيه : عمر ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله والله رءوف بالعباد .
وقوله تعالى : يشري نفسه أي يبيع نفسه ، يقال : شراه وباعه سواء ، واشتراه وابتاعه سواء ، ومنه قوله : وشروه بثمن بخس دراهم معدودة أي باعوه . فقوله : يشري نفسه أي يبيع نفسه لله تعالى ابتغاء مرضاته ، وذلك يكون بأن يبذل نفسه فيما يحبه الله ويرضاه ، وإن قتل أو غلب على ظنه أنه يقتل . كما قال تعالى : إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعدا عليه حقا في التوراة والإنجيل والقرآن ومن أوفى بعهده من الله فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم التائبون العابدون الحامدون السائحون الراكعون الساجدون الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر والحافظون لحدود الله وبشر المؤمنين .
وهذه الآية وهي قوله : إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم [ ص: 314 ] وأموالهم تدل على ذلك أيضا ، فإن المشتري يسلم إليه ما اشتراه ، وذلك ببذل النفس والمال في سبيل الله وطاعته ، وإن غلب على ظنه أن النفس تقتل والجواد يعقر ، فهذا من ، لما روى أفضل الشهادة في "صحيحه" عن البخاري قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ابن عباس . وفي رواية : "ما من أيام العمل الصالح فيها [أحب] إلى الله من هذه الأيام" يعني أيام العشر . قالوا : يا رسول الله! ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال : "ولا الجهاد في سبيل الله إلا رجل خرج بنفسه وماله ثم لم يرجع من ذلك بشيء" . "يعقر جواده وأهريق دمه"
وفي "السنن" عن عبد الله بن حبشي
قيل : فأي الجهاد أفضل؟] قال : "من جاهد المشركين بنفسه وماله" .
قيل : فأي القتل أشرف؟ قال : "من أهريق دمه وعقر جواده" . أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سئل أي العمل أفضل؟ قال : "طول القيام" . قيل : أي الصدقة أفضل؟ قال : "جهد المقل" . قيل : فأي الهجرة [أفضل؟ قال : "من هجر ما حرم الله عليه" .
وأيضا فإن الله سبحانه قد أخبر أنه أمر خليله بذبح ابنه ليبتليه هل يقتل ولده في محبة الله وطاعته؟ وقتل الإنسان ولده قد يكون أشق عليه من تعريضه نفسه للقتل ، والقتال في سبيل الله أحب إلى [ ص: 315 ] الله مما ليس كذلك .
والله سبحانه أمر إبراهيم بذبح ابنه قربانا ليمتحنه بذلك ، ولذلك نسخ ذلك عنه لما علم صدق عزمه في قتله; فإن المقصود لم يكن ذبحه لكن ابتلاء إبراهيم .
والله تعالى يبتلي المؤمنين ببذل أنفسهم; ليقتلوا في سبيل الله ومحبة رسوله; فإن قتلوا كانوا شهداء ، وإن عاشوا كانوا سعداء . كما قال : قل هل تربصون بنا إلا إحدى الحسنيين .
وقد قال لبني إسرائيل : فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم ذلكم خير لكم عند بارئكم . أي ليقتل بعضكم بعضا . فألقى عليهم ظلمة ، حتى جعل الذين لم يعبدوا العجل يقتلون الذين عبدوه .
فهذا الذي كان في شرع من قبلنا من أمره بقتل بعضهم بعضا قد عوضنا الله بخير منه وأنفع; وهو جهاد المؤمنين عدو الله وعدوهم ، وتعريضهم أنفسهم لأن يقتلوا في سبيله بأيدي عدوهم لا بأيدي بعضهم بعضا ، وذلك أعظم درجة وأكثر أجرا . وقد قال تعالى : ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم أو اخرجوا من دياركم ما فعلوه إلا قليل منهم ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به لكان خيرا لهم وأشد تثبيتا وإذا لآتيناهم من لدنا أجرا عظيما ولهديناهم صراطا مستقيما .