[ ص: 327 ] وأيضا فإن  أبا أيوب  أخبر بنزول الآية في ذلك; لم يتكلم فيها برأيه ، وهذا من ثابت روايته عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وهو حجة يجب اتباعها . 
وأيضا فإن التهلكة والهلاك لا يكون إلا بترك ما أمر الله به أو فعل ما نهى الله عنه . فإذا ترك العباد الذي أمروا به ، واشتغلوا عنه بما يصدهم عنه من عمارة الدنيا ، هلكوا في دنياهم بالذل وقهر العدو لهم ، واستيلائه على نفوسهم وذراريهم وأموالهم ، ورده لهم عن دينهم ، وعجزهم حينئذ عن العمل بالدين . بل وعن عمارة الدنيا وفتور هممهم عن الدين ، بل وفساد عقائدهم فيه . قال تعالى : ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون   . إلى غير ذلك من المفاسد الموجودة في كل أمة لا تقاتل عدوها سواء كانت مسلمة أو كافرة . 
فإن كل أمة لا تقاتل فإنها تهلك هلاكا عظيما باستيلاء العدو عليها وتسلطه على النفوس والأموال . وترك الجهاد يوجب الهلاك في الدنيا  كما يشاهده الناس ، وأما في الآخرة فلهم عذاب النار . 
وأما المؤمن المجاهد فهو كما قال الله تعالى : قل هل تربصون بنا إلا إحدى الحسنيين ونحن نتربص بكم أن يصيبكم الله بعذاب من عنده أو بأيدينا فتربصوا إنا معكم متربصون   . فأخبر أن المؤمن لا ينتظر إلا إحدى الحسنيين : إما النصر والظفر وإما  [ ص: 328 ] الشهادة والجنة ، فالمؤمن المجاهد إن حيي [حيي] حياة طيبة ، وإن قتل فما عند الله خير للأبرار . 
وأيضا فإن الله قال في كتابه : ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات   . وقال في كتابه : ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون   . فنهى المؤمنين أن يقولوا للشهيد إنه ميت . قال العلماء : وخص الشهيد بذلك; لئلا يظن الإنسان أن الشهيد يموت فيفر عن الجهاد خوفا من الموت . وأخبر الله أنه حي مرزوق; وهذا الوصف يوجد أيضا لغير الشهيد من النبيين والصديقين وغيرهم ، لكن خص الشهيد بالنهي لئلا ينكل عن الجهاد لفرار النفوس من الموت .
فإذا كان هو سبحانه قد نهى عن تسميته ميتا واعتقاده ميتا; لئلا يكون ذلك منفرا عن الجهاد فكيف يسمى الشهادة تهلكة؟ واسم الهلاك أعظم تنفيرا من اسم الموت . فمن قال : قوله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة  يراد به الشهادة في سبيل الله ، فقد افترى على الله بهتانا عظيما . 
وهذا الذي يقاتل العدو مع غلبة ظنه أنه يقتل  قسمان : 
أحدهما : أن يكون هو الطالب للعدو . فهذا الذي ذكرناه . 
والثاني : أن يكون العدو قد طلبه ، وقتاله قتال اضطرار . فهذا أولى وأوكد . ويكون قتال هذا إما دفعا عن نفسه وماله وأهله ودينه ،  [ ص: 329 ] كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - :  "من قتل دون ماله فهو شهيد ، ومن قتل دون دمه فهو شهيد ، ومن قتل دون حرمته فهو شهيد"  . قال  الترمذي   : [حديث حسن صحيح . و] يكون قتاله دفعا للأمر عن نفسه أو عن حرمته ، وإن غلب على ظنه أنه يقتل ، إذا كان القتال يحصل المقصود ، وإما فعلا لما يقدر عليه من الجهاد ، كما ذكرناه عن عاصم بن ثابت  وأصحابه . 
				
						
						
