الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
صفحة جزء
القسم الثامن عشر القسم وهو عند النحويين جملة يؤكد بها الخبر ، حتى إنهم جعلوا قوله تعالى : والله يشهد إن المنافقين لكاذبون ( المنافقون : 1 ) قسما ، وإن كان فيه إخبار ، إلا أنه لما جاء توكيدا للخبر سمي قسما .

ولا يكون إلا باسم معظم كقوله : فورب السماء والأرض إنه لحق ( الذاريات : 23 ) وقوله : قل إي وربي إنه لحق ( يونس : 53 ) .

وقوله : قل بلى وربي لتبعثن ( التغابن : 7 ) .

وقوله : فوربك لنحشرنهم والشياطين ( مريم : 68 ) .

وقوله : فوربك لنسألنهم أجمعين ( الحجر : 92 ) .

وقوله : فلا وربك لا يؤمنون ( النساء : 65 ) .

وقوله : فلا أقسم برب المشارق والمغارب ( المعارج : 40 ) .

فهذه سبعة مواضع أقسم الله فيها بنفسه ، والباقي كله أقسم بمخلوقاته .

كقوله : والتين والزيتون ( التين : 1 ) .

فلا أقسم بمواقع النجوم وإنه لقسم لو تعلمون عظيم ( الواقعة : 75 - 76 ) .

[ ص: 122 ] فلا أقسم بالخنس الجواري الكنس ( التكوير : 15 - 16 ) .

وإنما يحسن في مقام الإنكار .

فإن قيل : ما معنى القسم منه سبحانه ؟ فإنه إن كان لأجل المؤمن فالمؤمن يصدق مجرد الإخبار ، وإن كان لأجل الكافر فلا يفيده .

فالجواب : قال الأستاذ أبو القاسم القشيري : " إن الله ذكر القسم لكمال الحجة وتأكيدها ، وذلك أن الحكم يفصل باثنين : إما بالشهادة ، وإما بالقسم ، فذكر الله تعالى في كتابه النوعين حتى لا يبقي لهم حجة .

فقال : شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم ( آل عمران : 18 ) وقال : قل إي وربي إنه لحق ( يونس : 53 ) .

وقوله : لعمرك إنهم لفي سكرتهم يعمهون ( الحجر : 72 ) .

وعن بعض الأعراب أنه لما سمع قوله تعالى : وفي السماء رزقكم وما توعدون فورب السماء والأرض إنه لحق ( الذاريات : 22 - 23 ) صاح وقال : من الذي أغضب الجليل حتى ألجأه إلى اليمين ؟ قالها ثلاثا ، ثم مات .

فإن قيل : كيف أقسم بمخلوقاته وقد ورد النهي علينا ألا نقسم بمخلوق ؟ قيل : فيه ثلاثة أجوبة : أحدها : أنه حذف مضاف ، أي : " ورب الفجر " و " رب التين " ، وكذلك الباقي .

والثاني : أن العرب كانت تعظم هذه الأشياء وتقسم بها ; فنزل القرآن على ما يعرفون .

والثالث : أن الأقسام إنما تجب بأن يقسم الرجل بما يعظمه ، أو بمن يجله ; وهو فوقه ، [ ص: 123 ] والله تعالى ليس شيء فوقه ; فأقسم تارة بنفسه ، وتارة بمصنوعاته ; لأنها تدل على بارئ وصانع ، واستحسنه ابن خالويه .

وقسمه بالنبي - صلى الله عليه وسلم - في قوله : ( لعمرك ) ( الحجر : 72 ) ; ليعرف الناس عظمته عند الله ومكانته لديه ، قال الأستاذ أبو القاسم القشيري في " كنز اليواقيت " : " والقسم بالشيء لا يخرج عن وجهين : إما لفضيلة ، أو لمنفعة ; فالفضيلة كقوله تعالى : ( وطور سينين وهذا البلد الأمين ) ( التين : 2 - 3 ) والمنفعة نحو : والتين والزيتون ( التين : 1 ) .

وأقسم سبحانه بثلاثة أشياء : أحدها : بذاته كقوله تعالى : فورب السماء والأرض ( الذاريات : 23 ) فوربك لنسألنهم أجمعين ( الحجر : 92 ) .

والثاني بفعله ، نحو : والسماء وما بناها والأرض وما طحاها ونفس وما سواها ( الشمس : 5 - 6 - 7 ) .

والثالث : مفعوله نحو : والنجم إذا هوى ( النجم : 1 ) والطور وكتاب مسطور ( الطور : 1 - 2 ) .

وهو ينقسم باعتبار آخر إلى مظهر ومضمر : فالمظهر كقوله تعالى : فورب السماء والأرض ( الذاريات : 23 ) ونحوه .

والمضمر على قسمين : قسم دلت عليه لام القسم ; كقوله : لتبلون في أموالكم وأنفسكم ( آل عمران : 186 ) ، وقسم دل عليه المعنى ; كقوله تعالى : وإن منكم إلا واردها ( مريم : 71 ) تقديره : " والله " .

وقد أقسم تعالى بطوائف من الملائكة في أول سورة الصافات ، والمرسلات ، والنازعات .

[ ص: 124 ] فوائد : الأولى : أكثر الأقسام المحذوفة الفعل في القرآن لا تكون إلا بالواو ، فإذا ذكرت الباء أتي بالفعل ; كقوله تعالى : وأقسموا بالله جهد أيمانهم ( النحل : 38 ) يحلفون بالله ( التوبة : 62 ) ولا تجيء الباء والفعل محذوفا إلا قليلا ، وعليه حمل بعضهم قوله : ( يابني لا تشرك بالله ) ( لقمان : 13 ) وقال : الباء باء القسم ، وليست متعلقة بـ " تشرك " وكأنه يقول : يا بني لا تشرك ثم ابتدأ فقال : بالله لا تشرك ; وحذف " لا تشرك " لدلالة الكلام عليه ، وكذلك قوله : ادع لنا ربك بما عهد عندك ( الزخرف : 49 ) قيل : إن قوله : " بما عهد " قسم ; والأولى أن يقال : إنه سؤال لا قسم .

وقوله : ( ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق إن كنت قلته ) ( المائدة : 116 ) فتقف على ( لي ) وتبتدئ بحق فتجعله قسما .

هذا مع قول النحويين : إن الواو فرع الياء ; لكنه قد يكثر الفرع في الاستعمال ويقل الأصل .

الثانية : قد علمت أن القسم إنما جيء به لتوكيد المقسم عليه ; فتارة يزيدون فيه للمبالغة في التوكيد ، وتارة يحذفون منه للاختصار وللعلم بالمحذوف .

فما زادوه لفظ " إي " بمعنى " نعم " كقوله تعالى : ( قل إي وربي ) ( يونس : 53 ) .

ومما يحذفونه فعل القسم وحرف الجر ، ويكون الجواب مذكورا ، كقوله تعالى : لقد كان لكم في رسول الله ( الأحزاب : 21 ) أي " والله " .

وقوله : لأقطعن أيديكم ( الشعراء : 49 ) لنسفعن بالناصية ( العلق : 15 ) ليسجنن وليكونن من الصاغرين ( يوسف : 32 ) .

وقد يحذفون الجواب ويبقون القسم للعلم به ; كقوله تعالى : ( ص والقرآن ذي الذكر ) [ ص: 125 ] ( ص : 1 ) على أحد الأقوال ; أن الجواب حذف لطول الكلام ; وتقديره " لأعذبنهم على كفرهم " .

وقيل : الجواب إن ذلك لحق .

ومما حذف فيه المقسم به قوله تعالى : قالوا نشهد إنك لرسول الله ( المنافقون : 1 ) أي : نحلف إنك لرسول الله ; لأن الشهادة بمعنى اليمين ، بدليل قوله : ( أيمانهم جنة ) ( المنافقون : 2 ) .

وأما قوله تعالى : فالحق والحق أقول ( ص : 84 ) فالأول قسم بمنزلة " والحق " وجوابه : " لأملأن " ، وقوله : والحق أقول ( ص : 84 ) توكيد للقسم .

وأما قوله : والسماء ذات البروج ( البروج : 1 ) ثم قال : قتل أصحاب الأخدود ( البروج : 4 ) قالوا : وهو جواب القسم وأصله " لقد قتل " ثم حذف اللام وقد .

الثالثة : قال الفارسي في " الحجة " : الألفاظ الجارية مجرى القسم ضربان : أحدهما : ما تكون جارية كغيرها من الأخبار التي ليست بقسم ، فلا تجاب بجوابه ; كقوله تعالى : وقد أخذ ميثاقكم إن كنتم مؤمنين ( الحديد : 8 ) وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور خذوا ما آتيناكم بقوة ( البقرة : 63 ) فيحلفون له كما يحلفون لكم ( المجادلة : 18 ) فهذا ونحوه يجوز أن يكون قسما وأن يكون حالا ; لخلوه من الجواب .

والثاني : ما يتعلق بجواب القسم ; كقوله تعالى : وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه ( آل عمران : 187 ) وأقسموا بالله جهد أيمانهم ( النحل : 38 ) .

الرابعة : القسم والشرط يدخل كل منهما على الآخر ، فإن تقدم القسم ودخل الشرط بينه وبين الجواب كان الجواب للقسم ، وأغنى عن جواب الشرط ، وإن عكس فبالعكس ، وأيهما تصدر كان الاعتماد عليه ، والجواب له .

[ ص: 126 ] ومن تقدم القسم قوله تعالى : لئن لم تنته لأرجمنك ( مريم : 46 ) تقديره : " والله لئن لم تنته " ، فاللام الداخلة على الشرط ليست بلام القسم ، ولكنها زائدة ، وتسمى الموطئة للقسم ، ويعنون بذلك أنها مؤذنة بأن جواب القسم منتظر ; أي : الشرط لا يصلح أن يكون جوابا ; لأن الجواب لا يكون إلا خبرا .

وليس دخولها على الشرط بواجب ; بدليل حذفها في قوله تعالى : وإن لم ينتهوا عما يقولون ليمسن الذين كفروا منهم عذاب أليم ( المائدة : 73 ) .

والذي يدل على الجواب للقسم لا للشرط دخول اللام فيه ، وأنه ليس بمجزوم ; بدليل قوله تعالى : لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ( الإسراء : 88 ) ، ولو كان جواب الشرط لكان مجزوما .

وأما قوله تعالى : ولئن متم أو قتلتم لإلى الله تحشرون ( آل عمران : 158 ) فاللام في " ولئن " هي الموطئة للقسم ، واللام في ( لإلى الله ) هي لام القسم ، ولم تدخل نون التوكيد على الفعل ; للفصل بينه وبين اللام بالجار والمجرور ، والأصل " لئن متم أو قتلتم لتحشرون إلى الله " فلما قدم معمول الفعل عليه حذف منه .

التالي السابق


الخدمات العلمية