الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
صفحة جزء
الثاني : في أنواعها

وهي ثلاثة : نظيري ، ونقيضي ، وخلافي ، والخلافي أتمها في التشكيك ، وألزمها بالتأويل ، والنقيضي ثانيها ، والنظيري ثالثها .

وذكر الشيخ أبو الفضل يوسف بن محمد النحوي القلعي : أن القرآن كله وارد عليها بظهور نكته الحكمية العلمية ، من الكائنات والزمانيات والوسائط الروحانيات والأوائل الإلهيات ؛ حيث اتحدت من حيث تعددت ، واتصلت من حيث انفصلت ، وأنها قد ترد على [ ص: 505 ] شكل المربع تارة ، وشكل المسدس أخرى ، وعلى شكل المثلث إلى غير ذلك من التشكيلات العجيبة ، والترتيبات البديعة ، ثم أورد أمثلة من ذلك .

مثال مقابلة النظيرين : مقابلة السنة والنوم في قوله تعالى : لا تأخذه سنة ولا نوم ( البقرة : 255 ) لأنهما جميعا من باب الرقاد المقابل باليقظة .

وقوله : وتحسبهم أيقاظا وهم رقود ( الكهف : 18 ) وهذه هي مقابلة النقيضين أيضا ، ثم السنة والنوم بانفرادهما متقابلان في باب النظيرين ومجموعهما ويقابلان النقيض الذي هو اليقظة .

ومثال مقابلة الخلافين : مقابلة الشر بالرشد في قوله تعالى : وأنا لا ندري أشر أريد بمن في الأرض أم أراد بهم ربهم رشدا ( الجن : 10 ) فقابل الشر بالرشد ؛ وهما خلافيان ، وضد الرشد الغي ، وضد الشر الخير ، والخير الذي يخرجه لفظ الشر ضمنا نظير الرشد قطعا ، والغي الذي يخرجه لفظ الرشد ضمنا نظير الشر قطعا فقد حصل من هذا الشكل أربعة ألفاظ : نطقان وضمنان ، فكان بهما رباعيان .

وهذا الشكل الرباعي يقع في تفسيره على وجوه ، فقد يرد وبعضه مفسر مثل ما ذكرناه ، وقد يرد وكله مفسر ، كقوله تعالى : فلا صدق ولا صلى ولكن كذب وتولى ( القيامة : 31 - 32 ) فقابل " صدق " بـ " كذب " " وصلى " الذي هو أقبل بـ " تولى " .

قوله : لا يسمعون فيها لغوا ولا تأثيما إلا قيلا سلاما سلاما ( الواقعة : 25 - 26 ) اللغو في الحيثية المنكرة والتأثيم في الحيثية الناكرة ، واللغو منشأ المنكر ومبدأ درجاته ، والتأثيم منشأ التكبر ومبدأ درجاته ، فلا نكير إلا بعد منكر ، ولا اعتقاد إنكار إلا بعد اعتقاد تأثيم ، ومنشأ اللغو في أول طرف المكروهات ، وآخره في طرف المحظورات ومبدأ التأثيم .

[ ص: 506 ] ومن ذلك أيضا قوله تعالى : أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك ( البقرة : 30 ) فقابل الإفساد بالتسبيح والحمد ، وسفك الدماء بالتقديس ، فالتسبيح بالحمد إذن ينفي الفساد ، والتقديس ينفي سفك الدماء ، والتسبيح شريعة للإصلاح ، والتقديس شريعة حقن الدماء ، وشريعة التقديس أشرف من شريعة التسبيح ، فإن التسبيح بالحمد للإصلاح لا للفساد ، وسفك الدماء للتسبيح لا للتقديس ، وهذا شكل مربع ، من أرضي وهو الإفساد وسفك الدماء ، وسمائي وهو التسبيح والتقديس ، والأرضي ذو فصلين ، والسمائي ذو فصلين ، ووقع النفس من الطرفين المتوسطين ، فالطرفان الإفساد في الطرف الأول ، والتقديس في الطرف الآخر ، والوسطان آخر الأرض ، وأول السماء ، فالأول متشرف على الآتي ، والآخر ملفت إلى الماضي :


وكم في كتاب الله من كل موجز يدور على المعنى وعنه يماصع     لقد جمع الاسم المحامد كلها
مقاسيمها مجموعة والمشايع

وهذا القدر الذي ذكره هذا الحبر مرمى عظيم ، يوصل إلى أمور غير متجاسر عليها ، كما في آية الكرسي وغيرها .

التالي السابق


الخدمات العلمية