الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
صفحة جزء
الخامسة : قد يحتمل اللفظ كثيرا من الأسباب السابقة ، وله أمثلة ، منها قوله تعالى : [ ص: 14 ] وقال الله لا تتخذوا إلهين اثنين إنما هو إله واحد ( النحل : 15 ) فإن ابن مالك وغيره من النحويين جعلوه نعتا قصد به مجرد التأكيد .

ولقائل أن يقول : إن ( إلهين ) مثنى والـ ( اثنين ) للتثنية ، فما فائدة الصفة ؟ وفيه وجوه : أحدها : قاله ابن الخباز : " إن فائدتها توكيد نهي الإشراك بالله سبحانه ، وذلك أن العبرة في النهي عن اتخاذ الإلهين إنما هو لمحض كونهما اثنين فقط ، ولو وصف إلهين بغير ذلك من الصفات كقوله : " لا تتخذوا إلهين عاجزين " لأشعر بأن القادرين يجوز أن يتخذا ، فمعنى التثنية شامل لجميع الصفات ، فسبحان من دقت حكمته في كل شيء .

ونظير هذا ما قال الأخفش في قوله : فإن كانتا اثنتين ( النساء : 176 ) .

الثاني : أن الوحدة تطلق ويراد بها النوعية ، ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم - : إنما نحن وبنو عبد المطلب شيء واحد وتطلق ويراد بها العدد ، نحو : " إنما زيد رجل واحد " ، فالتثنية باعتبارها ، فلو قيل : لا تتخذوا إلهين فقط لصح في موضوعه أن يكون نهيا عن اتخاذ جنسين آلهة ، وجاز أن يتخذ من نوع واحد أعداد آلهة ; لأنه يطلق عليهم أنهم واحد ، لا سيما وقد [ ص: 15 ] يتخيل أن الجنس الواحد لا تتضاد مطلوباته ، فيصح ، فلما قال : اثنين بين فيه قبح التعديد للإله ، وأنه منزه عن العددية ، وقد أومأ إليه الزمخشري بقوله : وكذا القول في إنما هو إله واحد فيتبع كل واحد مما يؤكد فيه العدد ; ليدل على أن القصد إليه ، قال الزمخشري : " ألا ترى أنك لو قلت : إنما هو إله ولم تصفه بواحد لم يحسن ، وقيل لك : إنك نفيت الإلهية لا الوحدانية .

الثالث : أنه لما كان النهي واقعا على التعدد والاثنينية دون الواحد أتى بلفظ الاثنين ; لأن قولك : " لا تتخذ ثوبين " يحتمل النهي عنهما جميعا ، ويحتمل النهي عن الاقتصار عليهما ، فإذا قلت : " ثوبين اثنين " ، علم المخاطب أنك نهيته عن التعدد والاثنينية دون الواحد ، وأنك إنما أردت منه الاقتصار على ثوب واحد ، فتوجه النفي إلى نفس التعدد والعدد ، فأتى باللفظ الموضوع له الدال عليه ، فكأنه قال : " لا تعدد الآلهة ، ولا تتخذ عددا تعبده ، إنما هو إله واحد " .

الرابع : أن " اتخذ " هي التي تتعدى إلى مفعولين ، ويكون " اثنين " مفعولها الأول ، و " إلهين " مفعولها الثاني ; وأصل الكلام : " لا تتخذوا اثنين إلهين " ، ثم قدم المفعول الثاني على الأول ، ويدل على التقديم والتأخير أن " إلهين " أخص من " اثنين " ، واتخاذ اثنين يقع على ما يجوز وعلى ما لا يجوز ، وأما اتخاذ اثنين إلهين فلا يقع إلا على ما لا يجوز ، وقدم " إلهين " على " اثنين " إذ المقصود بالنهي اتخاذهما إلهين ; فالنهي وقع على معنيين : الآلهة المتخذة ، وعلى هذا فلا بد من ذكر " الاثنين " و " الإلهين " إذ هما مفعولا الاتخاذ .

قال صاحب " البسيط " : " وهذا الوجه هو الجيد ; ليخرج بذلك على التأكيد ، وأما إذا جعل " إلهين " مفعول تتخذوا و " اثنين " صفة ، فإنه أيضا لا يخرج عن الوصف إلى [ ص: 16 ] التأكيد ; لأنه لا يستفاد من اثنين ما استفيد من إلهين لأن الأول يدل على العدد والجنس ، والثاني على مجرد الاثنينية .

قال : وهذا الحكم في قوله تعالى : من كل زوجين اثنين ( هود : 40 ) في دخول ( اثنين ) في حد الوصف ، إلا أن من قرأ بتنوين " كل " ، فإنه حذف المضاف إليه ، وجعل التنوين عوضا عنه ، و ( زوجين ) مفعول ( احمل ) ( هود : 40 ) أو ( فاسلك ) ، و ( اثنين ) ( المؤمنون : 27 ) نعت ، و ( من ) يحتمل أنه متعلق بفعل الأمر ، ويحتمل أن يتعلق بمحذوف ; لكونه حالا من نكرة تقدم عليها ، والتقدير : احمل أو اسلك فيها زوجين اثنين من كل صنف .

ومن قرأ بإضافة " كل " احتمل وجهين : أحدهما : أن تجعل ( اثنين ) المفعول ، والجار والمجرور متعلق بفعل الأمر المحذوف كما تقدم .

والثاني : جعل ( من ) زائدة على رأي الأخفش ، و ( كل ) هي المفعول و ( اثنين ) صفة .

الخامس : أنه بدل ، وينوى بالأول الطرح ، واختاره النيلي في " شرح الحاجبية " ، قال : لما فيه من حسم مادة التأويل .

ونظير السؤال في الآية قوله تعالى : فإن كانتا اثنتين ( النساء : 176 ) فإن مروان بن سعيد المهلبي سأل أبا الحسن الأخفش فقال : ما الفائدة في هذا الخبر ؟ أراد مروان أن لفظ كانتا تفيد التثنية ، فما فائدة تفسيره الضمير المسمى باثنتين ، مع أنه لا يجوز " فإن كانتا ثلاثا " ولا فوق ذلك ، فلم يفصل الخبر الاسم في شئ ؟ فأجاب أبو الحسن بأنه أفاد العدد المحض مجردا عن الصفة ، أي : قد كان يجوز [ ص: 17 ] أن يقال : فإن كانتا صغيرتين فلهما كذا ، أو كبيرتين فلهما كذا ، أو صالحتين ، أو غير ذلك من الصفات ، فلما قال اثنتين أفهم أن فرض الثلثين للأختين تعلق بمجرد كونهما اثنتين فقط ، على أي صفة ، وهي فائدة لا تحصل من ضمير المثنى ، ومعناه أنهم كانوا في الجاهلية يورثون البنين دون البنات ، وكانوا يقولون : لا نورث إلا من يحمل الكل وينكئ العدو .

فلما جاء الإسلام بتوريث البنات أعلمت الآية أن العبرة في أحد الثلثين من الميراث منوط بوجود اثنتين من الأخوات من غير اعتبار أمر زائد على العدد .

قال الحريري : ولقد أبدع مروان في استنباطه وسؤاله ، وأحسن أبو الحسن في كشف إشكاله .

ولقد نقل ابن الحاجب في " أماليه " هذا الجواب عن أبي علي الفارسي - وقد بينا أنه من كلام الأخفش - ثم اعترض عليه بأن اللفظ وإن كان صالحا لإطلاقه على المثنى ، مجردا عن الصفات لا يصح إطلاقه خبرا دالا على التجريد من الصفات ، وإنما يعنى باللفظ ذاته الموضوعة له ; ألا ترى أنك إذا قلت : " جاءني رجل " لا يفهم إلا ذات ، من غير أن يدل على تجريد عن مرض أو جنون أو عقل ، فكذلك " اثنتين " لا تدل إلا على مسمى " اثنتين " فقط ، فلم يستفد منه شيء زائد على المستفاد من ضمير التثنية ثم لو سلم صحة إطلاق اللفظ كذلك فلا يصح هاهنا ; إذ لو صح لجاز أن يقال : " فإن كانتا على أي صفة حصل " ولو قيل ذلك لم يصح ، لأن تثنية الضمير في كانتا عائد [ ص: 18 ] على الكلالة ، والكلالة تكون واحدا واثنين وجماعة ، فإذا أخبر باثنتين حصلت به فائدة .

ثم لما كان الضمير الذي في " كانتا " العائد على الكلالة هو في معنى اثنين صح أن تثنيه ; لأن تثنيته فرع عن الإخبار باثنين ; إذ لولاه لم يصح أنه لم تستفد التثنية إلا من اثنين .

وقد أورد على ذلك اعتراض آخر ; وهو أن هذه الآية مماثلة لقوله تعالى : يوصيكم الله في أولادكم ( النساء : 11 ) ، ثم قال : ( فإن كن نساء ) ( النساء : 11 ) ( وإن كانت واحدة ) ( النساء : 11 ) ولو كان على ما ذكرتم لوجب أن يصح إطلاق الأولاد على الواحد كما في الكلالة ، وإلا لكان الضمير لغير مذكور .

والجواب بشيء يشمل الجميع ; وهو أن الضمير قد يعود على الشيء باعتبار المعنى الذي سيق إليه ونسب إلى صاحبه ; فإذا قلت : إذا جاءك رجال ، فإن كان واحدا فافعل به كذا ، وإن كان اثنين فكذا ; صح إعادة الضمير باعتبار المعنيين ; لأن المقصود الجائي ، وكأنك قلت : وإن كان الجائي من الرجال ; لأنه علم من قولك : " إذا جاءك " والآية سيقت لبيان الوارثين الأولاد ; فكأنه قيل : " فإن كان الوارث من الأولاد " ، لأنه المعنى الذي سيق له الكلام ، فقد دخلت " الاثنان " باعتبار هذا المعنى .

ويجوز أن تبقى الآية الأولى على ما ذكرنا ويختص هذا الجواب بهذه .

قلت : وفي هذه الآية ثلاثة أجوبة أخر : أحدها : أنه كلام محمول على المعنى ; أي : " فإن كان من ترك اثنتين " ، وهذا مقيد [ ص: 19 ] فأضمره على ما بعد ، و " من " يسوغ معها ذكر الاثنين ; لأنه لفظ مفرد يعبر به عن الواحد والاثنين والجمع ; فإذا وقع الضمير موقع " من " جرى مجراها في جواز الإخبار عنها بالاثنين .

الثاني : أن يكون من الأشياء التي جاءت على أصولها المرفوضة كقوله تعالى : استحوذ عليهم الشيطان ( المجادلة : 19 ) وذلك أن حكم الأعداد فيما دون العشرة أن تضاف إلى المعدود ; كثلاثة رجال ، وأربعة أبواب ، فكان القياس أن يقول : اثنين رجل ، وواحد رجل ; ولكنهم رفضوا ذلك ; لأنك تجد لفظة تجمع العدد والمعدود ، فتغنيك عن إضافة أحدهما إلى الآخر وهو قولك : رجلان ورجل ، وليس كذلك لأنك تجد ما فوق الاثنين ; ألا ترى أنك إذا قلت : ثلاثة ، لم يعلم المعدود ما هو ؟ وإذا قلت : رجال ، لم يعلم عددهم ما هو ؟ فأنت مضطر إلى ذكر العدد والمعدود ; فلذلك قيل : كان الرجال ثلاثة ، ولم يقل : كان الرجلان اثنين ، ولا الرجلان كانا اثنين ، فإذا استعمل شيء من ذلك كان استعمالا للشيء المرفوض ; كقوله :

ظرف عجوز فيه ثنتا حنظل

( فإن قيل ) : كيف يحمل القرآن عليه ، وإنما هو في الشعر ؟ ( قيل ) : إنا وجدنا في القرآن أشياء جاءت على الأصول المرفوضة كـ " استحوذ " ونظائرها .

الثالث : أن المراد " فإن كانتا اثنتين فصاعدا " ، فعبر بالأدنى عنه وعما فوقه ، قاله ابن [ ص: 20 ] الضائع النحوي .

قلت : ونظائرها قوله تعالى : فإن لم يكونا رجلين ( البقرة : 282 ) فإن الرجولية المثناة فهمت من الضمير ; بدليل واستشهدوا شهيدين من رجالكم ( البقرة : 282 ) فالظاهر أن قوله : " رجلين " حال لا خبر ، فكأن المعنى : " فإن لم يوجدا حال كونهما رجلين " ومثله قوله تعالى : إني وضعتها أنثى ( آل عمران : 36 ) فإن الأنوثة فهمت من قوله : ( وضعتها ) .

وأورد بعضهم السؤال في الأول ; فقال : الضمير في ( يكونا ) للرجلين ; لأن ( الشهيدين ) قيدا بأنهما من الرجال ; فكأن الكلام : " فإن لم يكن الرجلان رجلين " وهذا محال .

وأجاب بعضهم بما أجاب به الأخفش في آية المواريث : إن الخبر هنا أفاد العدد المجرد عن الصفة .

وهذا ضعيف ; إذ وضع فيه " الرجلين " موضع " الاثنين " وهو تجوز بعيد ، والذي ذكره الفارسي المجرد منهما ، الرجولية أو الأنوثية أو غيرها من الصفات ; فكيف يكون لفظ موضوع لصفة ما دالا على نفيها ؟ ! على أن في جواب الفارسي هناك نظرا ; فإنه لم يزد على أن جعل نفس السؤال جوابا ، كأنه قيل : لم ذكر العدد وهو متضمن للضمير ؟ فقال : لأنه يفيد العدد المجرد ، فلم يزد الألفاظ تجردا .

قال : وأما من أجاب بأن رجلين منصوب على الحال المبينة ، و " كان " تامة فهو أظرف من الأول ، فإنه سئل عن وجه النظم ، وأسلوب البلاغة ، ونفي ما لا يليق بها من الحشو ، فأجاب بالإعراب ، ولم يجب عن السؤال بشيء ; والذي يرد عليه وهو خبر يرد عليه وهو حال ، وما زادنا إلا التكلف في جعله حالا .

والذي يظهر في جواب السؤال هو أن " شهيدين " لما صح أن يطلق على المرأتين بمعنى " شخصين شهيدين " قيده بقوله تعالى : من رجالكم ( البقرة : 282 ) ثم أعاد الضمير في قوله [ ص: 21 ] تعالى : ( فإن لم يكونا ) على " الشهيدين المطلقين " وكان عوده عليهما أبلغ ; ليكون نفي الصفة عنهما كما كان إثباتها لهما ، فيكون الشرط موجبا ونفيا على الشاهدين المطلقين ; لأن قوله : ( من رجالكم ) كالشرط ; كأنه قال : " إن كانا رجلين " وفي النظم على هذا الأسلوب من الارتباط وجري الكلام على نسق واحد ما لا خفاء به .

وأما في آية المواريث ; فالظاهر أن الضمير وضع موضع الظاهر اختصارا لبيان المعنى ; بدليل أنه لم يتقدمه ما يدل عليه لفظا ، فكأنه قال : " فإن كان الوارث اثنين " ثم وضع ضمير الاثنين موضع الوارث الذي هو جنس ، لما كان المراد به منه " الاثنان " وأيضا فإن الإخبار عن الوارث - وإن كان جمعا - باثنين ففيه تفاوت ما ; لكونه مفرد اللفظ ، فكان الأليق بحسن النظم وضع المضمر موضع الظاهر ، ثم يجري الخبر على من حدث عنه - وهو الوارث - فيجري الكلام في طريقه مع الإيجاز في وضع المضمر موضع الظاهر ، والسلامة من تفاوت اللفظ في الإخبار عن لفظ مفرد بمثنى ونظير هذا مما وقع فيه اسم موضع غيره إيجازا ، ثم جرى الكلام مجراه في الحديث عمن هو له ، وإن لم يذكر قوله تعالى : وكم من قرية أهلكناها فجاءها بأسنا بياتا أو هم قائلون ( الأعراف : 4 ) فعاد هذا الضمير والخبر على أهل القرية الذين أقيمت القرية في الذكر مقامهم ، فجرى الكلام مجراه ، مع حصول الإيجاز في وضع القرية موضع أهلها ، وفهم المعنى بغير كلفة ، وهذه الغاية في البيان يقصر عن مداها بيان الإنسان .

ومنها قوله تعالى : فإذا نفخ في الصور نفخة واحدة ( الحاقة : 13 ) قال ابن [ ص: 22 ] عمرون : لما فهم منها التأكيد ظن بعضهم أنها ليست بصفة ، وليس بجيد ; لأنها دلالة على بعض أحوال الذات ، وليس في ( واحدة ) دلالة على نفخ ، فدل على أنها ليست تأكيدا ، انتهى .

وفي فائدة ( واحدة ) خمسة أقوال : أحدها : التوكيد ، مثل قولهم : " أمس الدابر " .

الثاني : وصفها ليصح أن تقوم مقام الفاعل ; لأنها مصدر والمصدر لا يقوم مقام الفاعل إلا إذا وصف .

ورد بأن تحديدها بتاء التأنيث مصحح ; لقيامها مقام الفاعل .

الثالث : أن الوحدة لم تعلم من " نفخة " إلا ضمنا وتبعا ; لأن قولك : " نفخة " يفهم منه أمران : النفخ والوحدة ، فليست " نفخة " موضوعة للوحدة ; فلذلك صح وصفها .

الرابع : وصفه النفخة بواحدة ; لأجل توهم الكثرة ، كقوله تعالى : وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها ( إبراهيم : 34 ) فالنعمة في اللفظ واحدة ، وقد علق عدم الإحصاء بعدها .

الخامس : أتى بالوحدة ليدل على أن النفخة لا اختلاف في حقيقتها ; فهي واحدة بالنوع كقوله : وما أمرنا إلا واحدة ( القمر : 50 ) أي : لا اختلاف في حقيقته .

ومنها قوله تعالى : ( وإلهكم إله واحد ) ( البقرة : 163 ) قيل : ما فائدة ( إله ) ؟ وهلا جاء " وإلهكم واحد " وهو أوجز ؟ قيل : لو قال : " وإلهكم واحد " لكان ظاهره إخبارا عن كونه واحدا في إلهيته ، يعني لا إله [ ص: 23 ] غيره ، ولم يكن إخبارا عن توحده في ذاته ، بخلاف ما إذا كرر ذكر الإله ، والآية إنما سيقت لإثبات أحديته في ذاته ، ونفي ما يقوله النصارى : إنه إله واحد ، والأقانيم ثلاثة ; أي : الأصول ، كما أن زيدا واحد وأعضاؤه متعددة ، فلما قال : إله واحد دل على أحدية الذات والصفة .

ولقائل أن يقول : قوله : واحد يحتمل الأحدية في الذات والأحدية في الصفات ، سواء ذكر الإله أو لا ، فلا يتم الجواب .

ومنهما قوله تعالى : ومناة الثالثة الأخرى ( النجم : 20 ) ومعلوم بقوله : الثالثة أنها الأخرى وفائدته التأكيد ، ومثله على رأي الفارسي وأنه أهلك عادا الأولى .

( النجم : 50 ) وأما قوله : فخر عليهم السقف من فوقهم ( النحل : 26 ) قيل : بمعنى عن ، أي : خر عن كفرهم بالله ، كما تقول : اشتكى فلان عن دواء شربه ; أي : من أجل كفرهم ، أو بمعنى اللام ; أي : فخر لهم .

وقيل : لأن العرب لا تستعمل لفظة " على " في مثل هذا الموضع إلا في الشر والأمر المكروه ; تقول : خربت على فلان ضيعته ، كقوله : واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان ( البقرة : 102 ) ويقولون على الله الكذب ( آل عمران : 78 ) أتقولون على الله ما لا تعلمون ( الأعراف : 28 ) وقيل : لأنه يقال : سقط عليه موضع كذا ، إذا كان يملكه ، وإن لم يكن من فوقه بل تحته ، فدل قوله تعالى : من فوقهم ( النحل : 26 ) على الفوقية الحقيقية ، وما أحسن هذه المقابلة بالفوقية بما تقدم من قوله : فأتى الله بنيانهم من القواعد ( النحل : 26 ) كما تقول : أخذ برجله فسقط على رأسه .

التالي السابق


الخدمات العلمية