الثاني : أن النفوس تنبعث إلى نقل الأحكام المعللة ، بخلاف غيرها ; وغالب التعليل [ ص: 166 ] في القرآن ، فهو على تقدير جواب سؤال اقتضته الجملة الأولى ، وهو سؤال عن العلة .
ومنه : إن النفس لأمارة بالسوء ( يوسف : 53 ) إن زلزلة الساعة شيء عظيم ( الحج : 1 ) إن صلاتك سكن لهم ( التوبة : 103 ) .
وتوضيح التعليل أن الفاء السببية لو وضعت مكان " إن " لحسن .
والطرق الدالة على العلة أنواع : الأول : التصريح بلفظ الحكم ; كقوله تعالى : حكمة بالغة ( القمر : 5 ) .
وقال : وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة ( النساء : 113 ) ، والحكمة هي العلم النافع والعمل الصالح .
الثاني : أنه فعل كذا لكذا ، أو أمر بكذا لكذا ، كقوله تعالى : ذلك لتعلموا أن الله يعلم ما في السماوات وما في الأرض ( المائدة : 97 ) .
وقوله تعالى : الله الذي خلق سبع سماوات ومن الأرض مثلهن يتنزل الأمر بينهن لتعلموا ( الطلاق : 12 ) .
جعل الله الكعبة البيت الحرام قياما للناس ( المائدة : 97 ) .
لئلا يعلم أهل الكتاب ( الحديد : 29 ) .
وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم ( البقرة : 143 ) .
وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به ( الأنفال : 11 ) .
وما جعله الله إلا بشرى لكم ولتطمئن قلوبكم به ( آل عمران : 126 ) وهو كثير .
فإن قيل : اللام فيه للعاقبة ; كقوله تعالى : فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوا وحزنا ( القصص : 8 ) وقوله : ليجعل ما يلقي الشيطان فتنة ( الحج : 53 ) وإنما قلنا ذلك لأن أفعال الله تعالى لا تعلل .
فالجواب أن معنى قولنا : إن أفعال الله تعالى لا تعلل ، أي : لا تجب ; ولكنها لا تخلو عن الحكمة ، وقد أجاب الملائكة عن قولهم : أتجعل فيها من يفسد فيها ( البقرة : 30 ) بقوله : إني أعلم ما لا تعلمون ( البقرة : 30 ) .
[ ص: 167 ] ولو كان فعله سبحانه مجردا عن الحكم والغايات لم يسأل الملائكة عن حكمته ، ولم يصح الجواب بكونه يعلم ما لا يعلمون من الحكمة والمصالح ، وفرق بين العلم والحكمة ; ولأن لام العاقبة إنما تكون في حق من يجهل العاقبة كقوله : فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوا وحزنا ( القصص : 8 ) وأما من هو بكل شيء عليم فمستحيلة في حقه ; وإنما اللام الواردة في أحكامه وأفعاله لام الحكمة والغاية المطلوبة من الحكمة . ثم قوله : ليكون لهم عدوا وحزنا هو تعليل لقضاء الله بالتقاطه وتقديره لهم ، فإن التقاطهم له إنما كان بقضائه وقدره ، وذكر فعلهم دون قضائه ; لأنه أبلغ في كونه حزنا لهم وحسرة عليهم .
قاعدة تفسيرية : حيث دخلت واو العاطف على لام التعليل فله وجهان : أحدهما : أن يكون تعليلا معلله محذوف ; كقوله تعالى : وليبلي المؤمنين منه بلاء حسنا ( الأنفال : 17 ) فالمعنى : وللإحسان إلى المؤمنين فعل ذلك .
الثاني : أن يكون معطوفا على علة أخرى مضمرة ; ليظهر صحة العطف ، كقوله تعالى : وخلق الله السماوات والأرض بالحق ولتجزى ( الجاثية : 22 ) التقدير : ليستدل بها المكلف على قدرته تعالى ولتجزى .
وكقوله : وكذلك مكنا ليوسف في الأرض ولنعلمه ( يوسف : 21 ) التقدير : ليتصرف فيها ولنعلمه .
والفرق بين الوجهين أنه في الأول عطف جملة على جملة ، وفي الثاني عطف مفرد على مفرد .
وقد يحتملهما الكلام ; كقوله تعالى : ولنجعلك آية للناس ( البقرة : 259 ) ، فالتقدير على الأول : " ولنجعله آية فعلنا ذلك " ، وعلى الثاني : " ولنبين للناس قدرتنا ولنجعله آية " ويطرد الوجهان في نظائره ، ويرجح كل واحد بحسب المقام ، وحذف المعلل هاهنا [ ص: 168 ] أرجح ; إذ لو فرض علة أخرى لم يكن بد من معلل محذوف ، وليس قبلها ما يصلح له .
فإن قلت : لم قدر المعلل مؤخرا ؟ قلت : فائدة هذا الأسلوب هو أن يجاء بالعلة بالواو للاهتمام بشأن العلة المذكورة ; لأنه إما أن يقدر علة أخرى ليعطف عليها ، فيكون اختصاص ذكرها لكونها أهم ، وإما أن يكون على تقدير معلل فيجب أن يكون مؤخرا ليشعر تقديمه بالاهتمام .
الثالث : الإتيان بكي ; كقوله تعالى : ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم ( الحشر : 7 ) فعلل سبحانه الفيء بين هذه الأصناف ; كيلا يتداوله الأغنياء دون الفقراء .
وقوله : ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها إن ذلك على الله يسير لكي لا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم ( الحديد : 22 - 23 ) وأخبر سبحانه أنه قدر ما يصيبهم من البلاء في أنفسهم قبل أن تبرأ الأنفس أو المصيبة أو الأرض أو المجموع ، ثم أخبر أن مصدر ذلك قدرته عليه وأنه هين عليه ، وحكمته البالغة التي منها ألا يحزن عباده على ما فاتهم ، ولا يفرحوا بما آتاهم ، فإنهم إذا علموا أن المصيبة فيه مقدرة كائنة ، ولا بد قد كتبت قبل خلقهم هان عليهم الفائت ، فلم يأسوا عليه ولم يفرحوا .
الرابع ذكر المفعول له وهو علة للفعل المعلل به ; كقوله : ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء وهدى ورحمة ( النحل : 89 ) .
ونصب ذلك على المفعول له أحسن من غيره ، كما صرح به في قوله : لتبين للناس ما نزل إليهم ( النحل : 44 ) .
وقوله : ولأتم نعمتي عليكم ولعلكم تهتدون ( البقرة : 150 ) .
وقوله : ولقد يسرنا القرآن للذكر ( القمر : 17 ) أي : لأجل الذكر ; كما قال تعالى : فإنما يسرناه بلسانك لعلهم يتذكرون ( الدخان : 58 ) .
وقوله : فالملقيات ذكرا عذرا أو نذرا ( المرسلات : 5 - 6 ) أي : للإعذار والإنذار .
وقد يكون معلولا بعلة أخرى ; كقوله تعالى : يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق حذر الموت ( البقرة : 19 ) [ ص: 169 ] فـ " من الصواعق " يحتمل أن تكون فيه " من " لابتداء الغاية فتتعلق بمحذوف ، أي : خوفا من الصواعق ، ويجوز أن تكون معللة بمعنى اللام ; كما في قوله تعالى : كلما أرادوا أن يخرجوا منها من غم ( الحج : 22 ) أي : لغم .
وعلى كلا التقديرين فـ " من الصواعق " في محل نصب على أنه مفعول له ، والعامل فيه ( يجعلون ) و ( حذر الموت ) مفعول له أيضا ، فالعامل فيه من الصواعق فـ " من الصواعق " علة لـ " يجعلون " معلول لحذر الموت ; لأن المفعول الأول الذي هو " من الصواعق " يصلح جوابا لقولنا : لم يجعلون أصابعهم في آذانهم ؟ والمفعول الثاني الذي هو " حذر الموت " يصلح جوابا لقولنا : لم يخافون من الصواعق ؟ فقد ظهر ذلك .
الخامس : اللام في المفعول له ، وتقوم مقامه الباء نحو : فبظلم من الذين هادوا ( النساء : 160 ) .
ومن نحو : من أجل ذلك كتبنا ( المائدة : 32 ) .
والكاف ، نحو : كما أرسلنا فيكم رسولا منكم ( البقرة : 151 ) وقال فاذكروني أذكركم ( البقرة : 152 ) وقال فاذكروا الله كما علمكم ( البقرة : 239 ) أي : لإرسالنا وتعليمنا .
السادس : الإتيان بإن ; كقوله تعالى : واستغفروا الله إن الله غفور رحيم ( المزمل : 20 ) ، وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم ( التوبة : 103 ) .
وما أبرئ نفسي إن النفس لأمارة بالسوء ( يوسف : 53 ) .
فقال لأهله امكثوا إني آنست نارا ( طه : 10 ) .
وكقوله : فلا يحزنك قولهم إنا نعلم ما يسرون وما يعلنون ( يس : 76 ) ، وليس هذا من قولهم ; لأنه لو كان قولهم لما حزن الرسول ، وإنما جيء بالجملة لبيان العلة والسبب في أنه لا يحزنه قولهم .
[ ص: 170 ] وكذلك قوله تعالى : ولا يحزنك قولهم إن العزة لله جميعا ( يونس : 65 ) والوقف على القول في هاتين الآيتين والابتداء بـ " إن " لازم .
وقد يكون علة لعلة ; كقوله : إن عذابها كان غراما إنها ساءت مستقرا ومقاما ( الفرقان : 65 - 66 ) .
وفيها وجهان لأهل المعاني : أحدهما أن سؤالهم لصرف العذاب معلل بأنه غرام ، أي : ملازم الغريم ، وبأنها ساءت مستقرا ومقاما .
الثاني : أن " ساءت " تعليل لكونه غراما .
السابع : أن والفعل المستقبل بعدها تعليلا لما قبله ; كقوله تعالى : أن تقولوا إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا ( الأنعام : 156 ) .
وقوله تعالى : أن تقول نفس ياحسرتا على ما فرطت في جنب الله ( الزمر : 56 ) .
وقوله : تولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزنا ألا يجدوا ما ينفقون ( التوبة : 92 ) كأنه قيل : لم فاضت أعينهم من الدمع ؟ قيل : للحزن .
فقيل : لم حزنوا ؟ فقيل : لئلا يجدوا .
وقوله : أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى ( البقرة : 282 ) .
ونظائره كثيرة ، وفي ذلك طريقان : أحدهما : للكوفيين ، أن المعنى لئلا يقولوا ، ولئلا تقول نفس .
الثاني : للبصريين أن المفعول محذوف ; أي : كراهة أن يقولوا ، أو : حذار أن يقولوا ، فإن قيل : كيف يستقيم الطريقان في قوله : أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى ( البقرة : 282 ) فإنك إذا قدرت : " لئلا تضل إحداهما " لم يستقم عطف " فتذكر " عليه ، وإن قدرت : " حذار أن تضل إحداهما " لم يستقم العطف أيضا ; لأنه لا يصح أن تكون الضلالة علة لشهادتهما .
قيل : بظهور المعنى يزول الإشكال ، فإن المقصود إذكار إحداهما الأخرى إذا ضلت [ ص: 171 ] ونسيت ، فلما كان الضلال سببا للإذكار جعل موضع العلة ; كما تقول : " أعددت هذه الخشبة أن تميل الحائط فأدعم بها " فإنما أعددتها للدعم لا للميل ، وأعددت هذا الدواء أن أمرض فأدواى به ونحوه ، هذا قول سيبويه والبصريين .
وقال الكوفيون : تقديره في " تذكر إحداهما الأخرى إن ضلت " ، فلما تقدم الجزاء اتصل بما قبله ، ففتحت " أن " .
الثامن : " من أجل " في قوله تعالى : من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفسا بغير نفس ( المائدة : 32 ) فإنه لتعليل الكتب ، وعلى هذا فيجب الوقف على من النادمين ( المائدة : 31 ) وظن قوم أنه تعليل لقوله : " من النادمين " أي : من أجل قتله لأخيه ، وهو غلط ; لأنه يشوش صحة النظم ويخل بالفائدة .
فإن قلت : كيف يكون قتل أحد ابني آدم للآخر علة للحكم على أمة أخرى بذلك الحكم ؟ وإذا كان علة فكيف كان قتل نفس واحدة بمنزلة قاتل الناس كلهم ؟ قيل : إن الله سبحانه يجعل أقضيته وأقداره عللا لأسبابه الشرعية وأمره ، فجعل حكمه الكوني القدري علة لحكمة أمره الديني ; لأن القتل لما كان من أعلى أنواع الظلم والفساد فخم أمره ، وعظم شأنه ، وجعل إثمه أعظم من إثم غيره ، ونزل قاتل النفس الواحدة منزلة قاتل الأنفس كلها في أصل العذاب لا في وصفه .
التاسع : التعليل بـ " لعل " ، كقوله تعالى : اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون ( البقرة : 21 ) قيل : هو تعليل لقوله : ( اعبدوا ) وقيل : لقوله : ( خلقكم ) .
وقوله : كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون ( البقرة : 183 ) حيث لمح فيها معنى الرجاء رجعت إلى المخاطبين .
[ ص: 172 ] العاشر : ذكر الحكم الكوني أو الشرعي عقب الوصف المناسب له ; فتارة يذكر بأن ، وتارة بالفاء ، وتارة يجرد .
فالأول : كقوله تعالى : وزكريا إذ نادى ربه رب لا تذرني فردا وأنت خير الوارثين الأنبياء : 89 ) إلى قوله : خاشعين ( الأنبياء : 90 ) وقوله : إن المتقين في جنات وعيون آخذين ما آتاهم ربهم إنهم كانوا قبل ذلك محسنين ( الذاريات : 15 - 16 ) .
والثاني : كقوله : والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما ( المائدة : 38 ) الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة ( النور : 277 ) .
والثالث : كقوله : إن المتقين في جنات وعيون ادخلوها بسلام آمنين ( الحجر : 45 - 46 ) إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة لهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون ( البقرة : 277 ) .
الحادي عشر : منه ; كقوله تعالى : تعليله سبحانه عدم الحكم بوجود المانع ولولا أن يكون الناس أمة واحدة لجعلنا لمن يكفر بالرحمن ( الزخرف : 33 ) الآية .
وقوله : ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض ( الشورى : 27 ) وما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذب بها الأولون ( الإسراء : 59 ) أي : آيات الاقتراح ، لا الآيات الدالة على صدق الرسل التي تأتي منه سبحانه ابتداء .
وقوله : ولو جعلناه قرآنا أعجميا لقالوا لولا فصلت آياته ( فصلت : 44 ) .
وقوله : لولا أنزل عليه ملك ولو أنزلنا ملكا لقضي الأمر ( الأنعام : 8 ) فأخبر سبحانه عما يمنع من إنزال الملك عيانا بحيث يشاهدونه ، وإن عنايته وحكمته بخلقه اقتضت منع ذلك ; بأنه لو أنزل عليه الملك ثم عاينوه ولم يؤمنوا به لعوجلوا بالعقوبة ، وجعل الرسول بشرا ليمكنهم التلقي عنه والرجوع إليه ، ولو جعله ملكا فإما أن يدعه على هيئته الملكية أو يجعله على هيئة البشر ، والأول يمنعهم من التلقي عنه ، والثاني لا يحصل مقصوده ، إذا كانوا يقولون هو بشر لا ملك .
[ ص: 173 ] الثاني عشر : كقوله : إخباره عن الحكم والغايات التي جعلها في خلقه وأمره الذي جعل لكم الأرض فراشا والسماء بناء وأنزل من السماء ماء ( البقرة : 22 ) الآية .
وقوله : ألم نجعل الأرض مهادا ( النبأ : 6 ) الآيات .
وقوله : والله جعل لكم من بيوتكم سكنا الآية .
وكما يقصدون البسط والاستيفاء يقصدون الإجمال والإيجاز ، كما قيل :
يرمون بالخطب الطوال وتارة وحي الملاحظ خيفة الرقباء
وقوله : ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا ( الروم : 21 ) .