وتلك الدلالة مقالية وحالية : فالمقالية قد تحصل من إعراب اللفظ ; وذلك كما إذا كان منصوبا ، فيعلم أنه لا بد له من ناصب ، وإذا لم يكن ظاهرا لم يكن بد من أن يكون مقدرا ; نحو : أهلا وسهلا ومرحبا ، أي : وجدت أهلا ، وسلكت سهلا ، وصادفت رحبا ، ومنه قوله تعالى : الحمد لله ( الفاتحة : 2 ) على قراءة النصب ، وكذلك قوله : واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام ( النساء : 1 ) والتقدير : احمدوا الحمد ، واحفظوا الأرحام ، وكذلك قوله تعالى : صبغة الله ومن أحسن من الله صبغة ( البقرة : 138 ) ملة أبيكم إبراهيم ( الحج : 78 ) .
والحالية قد تحصل من النظر إلى المعنى والعلم ; فإنه لا يتم إلا بمحذوف ، وهذا يكون أحسن حالا من النظم الأول لزيادة عمومه ، كما في قولهم : فلان يحل ويربط ; أي : يحل الأمور ويربطها ، أي : ذو تصرف .
وقد تدل الصناعة النحوية على التقدير ; كقولهم في : لا أقسم بيوم القيامة ( القيامة : 1 ) إن التقدير : لأنا أقسم ; لأن فعل الحال لا يقسم عليه .
وقوله تعالى : [ ص: 185 ] تالله تفتأ تذكر يوسف ( يوسف : 85 ) التقدير : لا تفتأ ; لأنه لو كان الجواب مثبتا لدخلت اللام والنون ، كقوله : بلى وربي لتبعثن ( التغابن : 7 ) .
وهذا كله عند قيام دليل واحد ، وقد يكون هنا أدلة يتعدد التقدير بحسبها ، كما في قوله تعالى : أفمن زين له سوء عمله فرآه حسنا ( فاطر : 8 ) فإنه يحتمل تقدير ثلاثة أمور : أحدها : كمن لم يزين له سوء عمله ، والمعنى : أفمن زين له سوء عمله فرآه حسنا ( فاطر : 8 ) من الفريقين اللذين تقدم ذكرهما ، كمن لم يزين له .
ثم كأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما قيل له ذلك قال : لا ، فقيل : فإن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء فلا تذهب نفسك عليهم حسرات ( فاطر : 8 ) .
ثانيها : تقدير : ذهبت نفسك عليهم حسرات ، فحذف الخبر لدلالة : فلا تذهب نفسك عليهم حسرات ( فاطر : 8 ) .
ثالثها : تقدير : " كمن هداه الله " فحذف لدلالة : فإن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء ( فاطر : 8 ) .
واعلم أن هذا الشرط إنما يحتاج إليه إذا كان المحذوف الجملة بأسرها ; نحو : قالوا سلاما ( هود : 69 ) أي : سلمنا سلاما ، أو أحد ركنيها نحو : قال سلام قوم منكرون ( الذاريات : 25 ) أي : " سلام عليكم أنتم قوم منكرون " فحذف خبر الأولى ومبتدأ الثانية .
وأما إذا كان المحذوف فضلة فلا يشترط لحذفه دليل ، ولكن يشترط ألا يكون في حذفه إخلال بالمعنى أو اللفظ ، كما في حذف العائد المنصوب ونحوه .
وشرط ابن مالك في حذف الجار أيضا أمن اللبس ومنع الحذف في نحو : رغبت في أن تفعل ، أو : عن أن تفعل ; لإشكال المراد بعد الحذف .
[ ص: 186 ] وأورد عليه : وترغبون أن تنكحوهن ( النساء : 127 ) فحذف الحرف .
وجوابه أن النساء يشتملن على وصفين : وصف الرغبة فيهن وعنهن ، فحذف للتعميم ، وشرط بعضهم في الدليل اللفظي أن يكون على وفق المحذوف ، وأنكر قول الفراء في قوله تعالى : أيحسب الإنسان ألن نجمع عظامه بلى قادرين على أن نسوي بنانه ( القيامة : 3 - 4 ) أن التقدير : بلى حسبنا قادرين ، والحساب المذكور بمعنى الظن ، والمحذوف بمعنى العلم ; إذ التردد في الإعادة كفر ، فلا يكون مأمورا به .
ويجاب بأن الحساب المقدر بمعنى الجزم والاعتقاد ، لا بمعنى الظن ، وتقديره بذلك أولى لموافقته الملفوظ .
وقد يدل على المحذوف ذكره في مواضع أخر .
منها - وهو أقواها - : كقوله : هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي ربك ( الأنعام : 158 ) أي : أمره ، بدليل قوله : أو يأتي أمر ربك ( النحل : 33 ) .
وقوله في آل عمران : وجنة عرضها السماوات والأرض ( آل عمران : 133 ) أي : كعرض ; بدليل التصريح به في آية الحديد .
وفيه إيجاز بليغ ، فإنه إذا كان العرض كذلك فما ظنك بالطول ; كقوله : بطائنها من إستبرق ( الرحمن : 54 ) .
وقيل : إنما أراد التعظيم والسعة لأحقية العرض ، كقوله :
كأن بلاد الله وهي عريضة على الخائف المظلوم كفة حابل
ومنها : ألا يكون الفعل طالبا له بنفسه ، فإن كان امتنع حذفه كالفاعل ، ومفعول ما لم يسم فاعله ، واسم كان وأخواتها ، وإنما لم يحذف لما في ذلك من نقض الغرض .[ ص: 187 ] ومنها قال : ومن حق الحذف أن يكون في الأطراف لا في الوسط ; لأن طرف الشيء أضعف من قلبه ووسطه ، قال تعالى : أبو الفتح بن جني أولم يروا أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها ( الرعد : 41 ) وقال الطائي الكبير :
كانت هي الوسط الممنوع فاستلبت ما حولها الخيل حتى أصبحت طرفا
تنبيهات : الأول : قد توجب صناعة النحو التقدير ، وإن كان المعنى غير متوقف عليه ، كما في قوله : " لا إله إلا الله " ; فإن الخبر محذوف وقدره النحاة : بـ " موجود " أو " لنا " .
وأنكره الإمام فخر الدين ، وقال : هذا كلام لا يحتاج إلى تقدير ، وتقديرهم فاسد ; لأن نفي الحقيقة مطلقة أعم من نفيها مقيدة ، فإنها إذا انتفت مطلقة كان ذلك دليلا على سلب الماهية مع القيد ، وإذا انتفت مقيدة بقيد مخصوص لم يلزم نفيها مع قيد آخر .
ولا معنى لهذا الإنكار ; فإن تقدير " في الوجود " يستلزم نفي كل إله غير الله قطعا ، فإن العدم لا كلام فيه فهو في الحقيقة نفي للحقيقة مطلقة لا مقيدة ، ثم لا بد من تقدير خبر لاستحالة مبتدأ بلا خبر ، ظاهرا أو مقدرا ، وإنما يقدر النحوي القواعد حقها وإن [ ص: 188 ] كان المعنى مفهوما ، وتقديرهم هنا : أو غيره ليروا صورة التركيب من حيث اللفظ مثالا لا من حيث المعنى ، ولهم تقديران : إعرابي ، وهو الذي خفي على المعترض ، ومعنوي وهو الذي ألزمه وهو غير لازم .
ومن المنكر في هذا أيضا قول ابن الطراوة : إن الخبر في هذا " إلا الله " وكيف يكون المبتدأ نكرة والخبر معرفة .
الثاني : اعتبر أبو الحسن في الحذف التدريج حيث أمكن ; ولهذا قال في قوله تعالى : واتقوا يوما لا تجزي نفس عن نفس شيئا ( البقرة : 48 ) إن أصل الكلام " يوم لا تجزي فيه " فحذف حرف الجر ، فصار " تجزيه " ثم حذف حرف الضمير فصار " تجزي " .
وهذا ملاطفة في الصناعة ، ومذهب أنه حذف فيه دفعة واحدة . سيبويه
وقال أبو الفتح في " المحتسب " : وقول أبي الحسن أوثق في النفس وآنس من أن يحذف الحرفان معا في وقت واحد .
الثالث : المشهور في قوله تعالى : فانفجرت منه ( البقرة : 60 ) أنه معطوف على جملة محذوفة ، التقدير : " فضرب فانفجرت " ودل " انفجرت " على المحذوف ، لأنه يعلم من الانفجار أنه قد ضرب .
وكذا أن اضرب بعصاك البحر فانفلق ( الشعراء : 63 ) إذ لا جائز أن يحصل الانفجار والانفلاق دون ضرب .
[ ص: 189 ] وابن عصفور يقول في مثل هذا : إن حرف العطف المذكور مع المعطوف هو الذي كان مع المعطوف عليه ، وإن المحذوف هو المعطوف عليه ، وحذف حرف العطف من المعطوف ، فالفاء في " انفلق " هو فاء الفعل المحذوف وهو " ضرب " فذكرت فاؤه ، وحذف فعلها ، وذكر فعل " انفلق " وحذفت فاؤه ليدل المذكور على المحذوف ; وهو تحيل غريب .