الثاني :  الاكتفاء ،   وهو أن يقتضي المقام ذكر شيئين بينهما تلازم وارتباط ; فيكتفى بأحدهما عن الآخر ، ويخص بالارتباط العطفي غالبا ; فإن  الارتباط   خمسة أنواع : وجودي ، ولزومي ، وخبري ، وجوابي ، وعطفي .  
 [ ص: 191 ] ثم ليس المراد الاكتفاء بأحدهما كيف اتفق ; بل لأن فيه نكتة تقتضي الاقتصار عليه .  
والمشهور في مثال هذا النوع قوله تعالى :  سرابيل تقيكم الحر      ( النحل : 81 ) أي : والبرد ، هكذا قدروه ، وأوردوا عليه سؤال الحكمة من تخصيص الحر بالذكر ، وأجابوا بأن الخطاب للعرب ، وبلادهم حارة ، والوقاية عندهم من الحر أهم ; لأنه أشد من البرد عندهم .  
والحق أن الآية ليست من هذا القسم ; فإن البرد ذكر الامتنان بوقايته قبل ذلك صريحا في قوله :  ومن أصوافها وأوبارها وأشعارها      ( النحل : 80 ) وقوله :  وجعل لكم من الجبال أكنانا      ( النحل : 81 ) وقوله في صدر السورة :  والأنعام خلقها لكم فيها دفء      ( النحل : 5 ) .  
فإن قيل : فما الحكمة في ذكر الوقايتين بعد قوله :  والله جعل لكم مما خلق ظلالا      ( النحل : 81 ) فإن هذه وقاية الحر ، ثم قال :  وجعل لكم من الجبال أكنانا      ( النحل : 81 ) فهذه وقاية البرد على عادة العرب ؟ قيل : لأن ما تقدم بالنسبة إلى المساكن وهذه إلى الملابس ، [ نعم اعملوا في الآية ] ، وقوله :  وجعل لكم من الجبال أكنانا      ( النحل : 81 ) ولم يقل السهل وفيه الجوابان السابقان .  
وأمثلة هذا القسم كثيرة ; كقوله تعالى :  وله ما سكن في الليل والنهار      ( الأنعام : 13 ) فإنه قيل : المراد : " وما تحرك " وإنما آثر ذكر السكون ; لأنه أغلب الحالين على المخلوق من الحيوان والجماد ، ولأن الساكن أكثر عددا من المتحرك ، أو لأن كل متحرك يصير إلى السكون ، ولأن السكون هو الأصل والحركة طارئة .  
 [ ص: 192 ] وقوله :  بيدك الخير      ( آل عمران : 26 ) تقديره : " والشر " إذ مصادر الأمور كلها بيده جل جلاله ، وإنما آثر ذكر الخير ; لأنه مطلوب العباد ومرغوبهم إليه ; أو لأنه أكثر وجودا في العالم من الشر ; ولأنه يجب في باب الأدب ألا يضاف إلى الله تعالى ، كما قال صلى الله عليه وسلم :  والشر ليس إليك     .  
وقيل : إن الكلام إنما ورد ردا على المشركين فيما أنكروه مما وعده الله به على لسان  جبريل   من فتح بلاد  الروم   وفارس ،   ووعد النبي - صلى الله عليه وسلم - أصحابه بذلك ، فلما كان الكلام في الخير خصه بالذكر باعتبار الحال .  
وقوله :  الذين يؤمنون بالغيب      ( البقرة : 3 ) أي : والشهادة ; لأن الإيمان بكل منهما واجب ، وآثر الغيب لأنه أبدع ، ولأنه يستلزم الإيمان بالشهادة من غير عكس .  
ومثله :  أم يجعل له ربي أمدا   عالم الغيب      ( الجن : 25 - 26 ) أي : والشهادة بدليل التصريح به في موضع آخر .  
وقوله :  يكاد البرق يخطف أبصارهم      ( البقرة : 20 ) فإنه سبحانه ذكر أولا الظلمات والرعد والبرق ، وطوى الباقي .  
ومنه قوله تعالى :  وإذا مسكم الضر في البحر      ( الإسراء : 67 ) أي : والبر ، وإنما آثر ذكر البحر لأن ضرره أشد .  
وقوله :  وما بينهما ورب المشارق      ( الصافات : 5 ) أي : والمغارب .  
وقوله :  لا يسألون الناس إلحافا      ( البقرة : 273 ) أي : ولا غير إلحاف .  
وقوله :  من أهل الكتاب أمة قائمة      ( آل عمران : 113 ) أي : وأخرى غير قائمة .  
 [ ص: 193 ] وقوله :  ولتستبين سبيل المجرمين      ( الأنعام : 55 ) أي : والمؤمنين .  
وقوله :  هدى للمتقين      ( البقرة : 2 ) أي : والكافرين ، قاله   ابن الأنباري ،  ويؤيده قوله :  هدى للمتقين      ( البقرة : 185 ) .  
وقوله :  ولا تكونوا أول كافر به      ( البقرة : 41 ) ، قيل : المعنى : وآخر كافر به ، فحذف المعطوف لدلالة قوة الكلام ، من جهة أن أول الكفر وآخره سواء ، وخصت الأولوية بالذكر لقبحها بالابتداء .  
وقوله :  أولم يروا إلى الطير فوقهم صافات ويقبضن ما يمسكهن      ( الملك : 19 ) أي : ويبسطن ، قاله  الفارسي     .  
وحكى في " التذكرة " عن بعض أهل التأويل في قوله تعالى :  أكاد أخفيها لتجزى      ( طه : 15 ) أن المعنى : " أكاد أظهرها أخفيها لتجزى " فحذف " أظهرها " لدلالة أخفيها عليه .  
قال : وعندي أن المعنى " أزيل خفاءها " فلا حذف .  
وقوله :  لا نفرق بين أحد من رسله      ( البقرة : 285 ) أي : بين أحد وأحد .  
وقوله :  لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل      ( الحديد : 10 ) أي : ومن أنفق بعده وقاتل ; لأن الاستواء يطلب اثنين ; وحذف المعطوف لدلالة الكلام عليه ; ألا تراه قال بعده :  أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا      ( الحديد : 10 ) .  
وقوله :  ومن يستنكف عن عبادته ويستكبر فسيحشرهم إليه جميعا      ( النساء : 172 ) أي : ومن لا يستنكف ولا يستكبر ; بدليل التقسيم بعده بقوله :  فأما الذين آمنوا      ( النساء : 173 )  وأما الذين استنكفوا      ( النساء : 173 ) .  
 [ ص: 194 ] وقوله :  ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم      ( الأعراف : 17 ) فاكتفى هنا بذكر الجهات الأربع عن الجهتين .  
وقوله :  إذ جاءتهم الرسل من بين أيديهم ومن خلفهم      ( فصلت : 14 ) الاكتفاء بجهتين عن سائرها .  
وقوله :  وتلك نعمة تمنها علي أن عبدت بني إسرائيل      ( الشعراء : 22 ) أي : ولم تعبدني .  
وقوله :  إن امرؤ هلك ليس له ولد      ( النساء : 176 ) أي : ولا والد ، بدليل أنه أوجب للأخت النصف ، وإنما يكون ذلك مع فقد الأب ، فإن الأب يسقطها .  
وقوله :  فأما من تاب وآمن وعمل صالحا فعسى أن يكون من المفلحين      ( القصص : 67 ) ولم يذكر القسم الآخر الذي تقتضيه " أما " إذ وضعها لتفصيل كلام مجمل ، وأقل أقسامها قسمان ، ولا ينفك عنهما في جميع القرآن إلا في موضعين هذا أحدهما ، والتقدير : وأما من لم يتب ولا يؤمن ولم يعمل صالحا فلا يكون من المفلحين ، والثاني في آل عمران :  فأما الذين في قلوبهم زيغ      ( آل عمران : 7 ) إلى قوله :  إلا الله      ( آل عمران : 7 ) هذا أحد القسمين ، والقسم الثاني ما بعده ، وتقديره : وأما الراسخون في العلم فيقولون .  
وقوله :  فبدل الذين ظلموا قولا غير الذي قيل لهم      ( البقرة : 59 ) أي : وفعلا غير الذي أمروا به ; لأنهم أمروا بشيئين : بأن يدخلوا الباب سجدا ، وبأن يقولوا حطة ; فبدلوا القول في " حنطة " " حطة " ، وبدلوا الفعل بأن دخلوا يزحفون على أستاههم ، ولم يدخلوا ساجدين ، والمعنى : إرادتنا حطة ، أي : حط عنا ذنوبنا .  
وقوله :  وما يستوي الأعمى والبصير ولا الظلمات ولا النور ولا الظل ولا الحرور      ( فاطر : 19 - 20 - 21 )      [ ص: 195 ] قال  ابن عطية     : دخول " لا " على نية التكرار ; كأنه قال : ولا الظلمات ولا النور ولا النور والظلمات ، واستغنى بذكر الأوائل عن الثواني ; ودل بمذكور الكلام على متروكه .  
وقوله :  حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر      ( البقرة : 187 ) فإن قيل : ليس للفجر خيط أسود ، إنما الأسود من الليل .  
فأجيب : إن  من الفجر      ( البقرة : 187 ) متصل بقوله :  الخيط الأبيض      ( البقرة : 187 ) والمعنى : حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الفجر من الخيط الأسود من الليل ; لكن حذف " من الليل " لدلالة الكلام عليه ، ثم لوقوع الفجر في موضعه ; لأنه لا يصح أن يكون من الفجر متعلقا بالخيط الأسود ; ولو وقع من الفجر في موضعه متصلا بالخيط الأبيض لضعفت الدلالة على المحذوف ; وهو " من الليل " فحذف " من الليل " للاختصار ، وأخر " من الفجر " للدلالة عليه .  
				
						
						
