حذف المفعول   وهو ضربان : أحدهما : أن يكون مقصودا مع الحذف ، فينوى لدليل ، ويقدر في كل موضع ما يليق به ; كقوله تعالى :  فعال لما يريد      ( البروج : 16 ) ، أي : يريده .  
فغشاها ما غشى      ( النجم : 54 ) أي : غشاها إياه .  
الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر      ( الرعد : 26 ) .  
لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم      ( هود : 43 ) .  
وسلام على عباده الذين اصطفى      ( النمل : 59 ) .  
أين شركائي الذين كنتم تزعمون      ( القصص : 62 ) .  
وكل هذا على حذف ضمير المفعول ، وهو مراد ، حذف تخفيفا لطول الكلام بالصفة ، ولولا إرادة المفعول وهو الضمير لخلت الصلة من ضمير يعود على الموصول ، وذلك لا يجوز ، وكان في حكم المنطوق به ، فالدلالة عليه من وجهين : اقتضاء الفعل له واقتضاء الصلة إذا كان العائد .  
ومنه قوله تعالى : ( وما عملت أيديهم ) ( يس : 35 ) في قراءة  حمزة   والكسائي  بغير ها ، أي : ما عملته ، بدليل قراءة الباقين ، فـ " ما " في موضع خفض للعطف على ثمره .  
 [ ص: 234 ] ويجوز أن تكون " ما " نافية ، والمعنى : ليأكلوا من ثمره ولم تعمله أيديهم ; فيكون أبلغ في الامتنان ، ويقوي ذلك قوله تعالى :  أفرأيتم ما تحرثون   أأنتم تزرعونه أم نحن الزارعون      ( الواقعة : 63 - 64 ) وعلى هذا فلا تكون الهاء مرادة ; لأنها غير موصولة .  
وجعل بعضهم منه قوله تعالى :  ويشرب مما تشربون      ( المؤمنون : 33 ) وهو فاسد ; لأن شرب يتعدى بنفسه .  
والغرض حينئذ بالحذف أمور : منها : قصد الاختصار عند قيام القرائن ; والقرائن إما حالية كما في قوله تعالى :  رب أرني أنظر إليك      ( الأعراف : 143 ) لظهور أن المراد : أرني ذاتك ، ويحتمل أن يكون هاب المواجهة بذلك ، ثم براه الشوق ، ويجوز أن يكون أخر ليأتي به مع الأصرح ; لئلا يتكرر هذا المطلوب العظيم على المواجهة إجلالا .  
ومنه قوله تعالى :  على أن تأجرني      ( القصص : 27 ) الظاهر أنه متعد حذف مفعوله ; أي : تأجرني نفسك .  
وجعل منه  السكاكي  قوله تعالى :  ولما ورد ماء مدين وجد عليه أمة من الناس يسقون ووجد من دونهم امرأتين تذودان قال ما خطبكما قالتا لا نسقي حتى يصدر الرعاء وأبونا شيخ كبير      ( القصص : 23 ) فمن قرأ بكسر الدال من يصدر فإنه حذف المفعول في خمسة مواضع ، والأقرب أنه من الضرب الثاني كما سنبينه فيه ، إن شاء الله تعالى .  
وقوله :  فإذا أفضتم من عرفات      ( البقرة : 198 ) أي : أنفسكم .  
 [ ص: 235 ] وقوله :  فذوقوا بما نسيتم لقاء يومكم هذا      ( السجدة : 14 ) ، أي : فذوقوا العذاب .  
وقوله :  إني أسكنت من ذريتي      ( إبراهيم : 37 ) أي : ناسا أو فريقا .  
وقوله :  فادع لنا ربك يخرج لنا      ( البقرة : 61 ) أي : شيئا .  
وقوله :  يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات      ( إبراهيم : 48 ) أي : غير السماوات ، وقوله :  قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن      ( الإسراء : 110 ) على أن الدعاء بمعنى التسمية التي تتعدى إلى مفعولين ; أي : سموه الله ، أو سموه الرحمن ، أيا ما تسموه فله الأسماء الحسنى ، إذ لو كان المراد بمعنى الدعاء المتعدي لواحد لزم الشرك إن كان مسمى الله غير مسمى الرحمن ، وعطف الشيء على نفسه إن كان عينه .  
ومنها قصد الاحتقار كقوله :  كتب الله لأغلبن أنا ورسلي      ( المجادلة : 21 ) أي : الكفار ومنها قصد التعميم ; ولا سيما إذا كان في حيز النفي ; كقوله تعالى :  وما تغني الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون      ( يونس : 101 ) وكذا  وما كانوا مؤمنين      ( الأعراف : 72 ) وكثيرا ما يعتري الحذف في رءوس الآي ; نحو :  لو كانوا يعلمون      ( البقرة : 102 ) .  
و  لقوم يشكرون      ( الأعراف : 58 ) .  
أفلا تسمعون      ( القصص : 71 ) .  
أفلا تبصرون      ( القصص : 72 ) .  
أولا يعلمون أن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون      ( البقرة : 77 ) .  
إنما نحن مستهزئون      ( البقرة : 14 ) .  
فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون      ( البقرة : 22 ) .  
وكذا كل موضع كان الغرض إثبات المعنى الذي دل عليه الفعل لفاعل غير متعلق بغيره .  
 [ ص: 236 ] ومنه قوله تعالى :  والله يدعو إلى دار السلام      ( يونس : 25 ) أي : كل أحد ; لأن الدعوة عامة والهداية خاصة .  
وأما قوله تعالى :  وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون      ( المطففين : 3 ) فكال ووزن يتعديان إلى مفعولين : أحدهما باللام ، والتقدير : كالوا ووزنوا لهم ، وحذف المفعول الثاني لقصد التعميم .  
وما ذكرناه من كون " هم " منصوبا في الموضع بعد اللام هو الظاهر ، وقرره   ابن الشجري  في " أماليه " قال : وأخطأ بعض المتأولين حيث زعم أن " هم " ضمير مرفوع أكدت به الواو كالضمير في قولك : " خرجوا هم " فـ " هم " على هذا التأويل عائد على المطففين .  
ويدل على بطلان هذا القول أمران : أحدهما : عدم ثبوت الألف بعد الواو في " كالوهم " و " وزنوهم " ولو كان كما قال لأثبتوها في خط المصحف ، كما أثبتوها في قوله تعالى :  خرجوا من ديارهم      ( البقرة : 243 )  قالوا لنبي لهم      ( البقرة : 246 ) ونحوه .  
والثاني : أن تقدم ذكر " الناس " يدل على أن الضمير راجع إليهم ; فالمعنى  إذا اكتالوا على الناس يستوفون      ( المطففين : 2 ) وإذا كالوا للناس أو وزنوا للناس يخسرون .  
وجعل   الزمخشري  من حذف المفعول قوله تعالى :  فمن شهد منكم الشهر فليصمه      ( البقرة : 185 )      [ ص: 237 ] أي : في المصر ، وعند  أبي علي  أن الشهر ظرف ، والتقدير : فمن شهد منكم المصر في الشهر .  
ومنها تقدم مثله في اللفظ ، كقوله تعالى :  يمحوا الله ما يشاء ويثبت      ( الرعد : 39 ) أي : ويثبت ما يشاء .  
فلما كان المفعول الثاني بلفظ الأول في عمومه واحتياجه إلى الصلة جاز حذفه ; لدلالة ما ذكر عليه كقوله :  ادفع بالتي هي أحسن السيئة نحن أعلم      ( المؤمنون : 96 ) .  
وقوله :  يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات      ( إبراهيم : 48 ) أي : غير السماوات .  
وقوله :  لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل      ( الحديد : 10 ) أي : ومن أنفق من بعده وقاتل ; بدليل ما بعده .  
وقوله :  وأبصر فسوف يبصرون      ( الصافات : 179 ) أي : أبصرهم ; بدليل قوله :  وأبصرهم      ( الصافات : 175 ) وسبق عن  ابن ظفر  السر في ذكر المفعول في الأول ، وحذفه في الثاني في هذه الآية الشريفة أن الأولى اقتضت نزول العذاب بهم يوم  بدر   ، فلما تضمنت التشفي قيل : أبصرهم .  
وأما الثاني فالمراد بها يوم الفتح ، واقترن بها مع الظهور عليهم تأمينهم والدعاء إلى إيمانهم ، فلم يكن وقتا للتشفي بل للبروز ; فقيل له : ( أبصر ) والمعنى فسيبصرون منك عليهم .  
وقوله :  فهل وجدتم ما وعد ربكم      ( الأعراف : 44 ) أي : وعدكم ربكم ; فحذف لدلالة قوله قبله :  ما وعدنا ربنا      ( الأعراف : 44 ) قاله   الزمخشري     .  
وقد يقال : أطلق ذلك ليتناول كل ما وعد الله من الحساب والبعث والثواب والعقاب ، وسائر أحوال القيامة ; لأنهم كانوا يكذبون بذلك أجمع ، ولأن الموعود كله مما ساءهم ،      [ ص: 238 ] وما نعيم أهل الجنة إلا عذاب لهم ، فأطلق لذلك ليكون من الضرب الآتي .  
وقوله :  أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه فويل للقاسية      ( الزمر : 22 ) .  
ومنها رعاية الفاصلة نحو :  والضحى   والليل إذا سجى   ما ودعك ربك وما قلى      ( الضحى : 1 - 3 ) أي : ما قلاك ، فحذف المفعول ; لأن فواصل الآي على الألف .  
ويحتمل أنه للاختصار لظهور المحذوف قبله ; أي : أفمن شرح الله صدره للإسلام كمن أقسى قلبه ؟ ! فحذف لدلالة :  فويل للقاسية      ( الزمر : 22 ) .  
ومنها البيان بعد الإبهام كما في مفعول المشيئة والإرادة ، فإنهم لا يكادون يذكرونه ، كقوله تعالى :  ولو شاء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم      ( البقرة : 20 ) .  
ولو شاء الله لجمعهم على الهدى      ( الأنعام : 35 ) .  
ولو شاء لهداكم أجمعين      ( النحل : 9 ) .  
فإن يشأ الله يختم على قلبك      ( الشورى : 24 ) .  
من يشأ الله يضلله      ( الأنعام : 39 ) .  
ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها      ( السجدة : 13 ) .  
التقدير : لو شاء الله أن يفعل ذلك لفعل .  
وشرط  ابن النحوية  في حذفه دخول أداة الشرط عليه ; كما سبق من قوله :  فإن يشأ الله يختم على قلبك      ( الشورى : 24 ) .  
 [ ص: 239 ] و  لو نشاء لقلنا مثل هذا      ( الأنفال : 31 ) .  
من يشأ الله يضلله ومن يشأ يجعله على صراط مستقيم      ( الأنعام : 39 ) .  
والحكمة في كثرة حذف مفعول المشيئة المستلزمة لمضمون الجواب لا يمكن أن تكون إلا مثيلة الجواب ، ولذلك كانت الإرادة كالمشيئة في جواز اطراد حذف مفعولها ; صرح به   الزمخشري  في تفسير سورة البقرة ،  وابن الزملكاني  في " البرهان " ،  والتنوخي  في " الأقصى " كقوله :  يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم      ( الصف : 8 ) وإنما حذفه لأن في الآية قبلها ما يدل على أنهم افتروا الكذب ; وهو بزعمهم إطفاء نور الله ، فلو ذكر أيضا لكان كالمتكرر ; فحذف وفسر بقوله :  ليطفئوا نور الله بأفواههم      ( الصف : 8 ) وكان في الحذف تنبيه على هذا المعنى الغريب .  
وينبغي أن يتمهل في تقدير مفعول المشيئة ; فإنه يختلف المعنى بحسب التقدير ; ألا ترى إلى قوله تعالى :  ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها      ( السجدة : 13 ) فإن التقدير كما قاله   عبد القاهر الجرجاني     : ولو شئنا أن نؤتي كل نفس هداها لآتيناها ، لا يصح إلا على ذلك لأنه إن لم يقدر هذا المفعول أدى - والعياذ بالله - إلى أمر عظيم ; وهو نفي أن يكون لله مشيئة على الإطلاق ; لأن من شأن " لو " أن يكون الإثبات بعدها نفيا ، ألا ترى أنك إذا قلت : لو جئتني أعطيتك ; كان المعنى على أنه لم يكن مجيء ولا إعطاء ، وأما قوله تعالى :  ولو شئنا لرفعناه بها      ( الأعراف : 176 ) فقدره النحويون : فلم نشأ فلم نرفعه .  
 [ ص: 240 ] وقال  ابن الخباز     : الصواب أن يكون التقدير " فلم نرفعه فلم نشأ " لأن نفي اللازم يوجب نفي الملزوم ، فوجود الملزوم يوجب وجود اللازم ; فيلزم من وجود المشيئة وجود الرفع ، ومن نفى الرفع نفى المشيئة ، وأما نفي الملزوم فلا يوجب نفي اللازم ، ولا وجود اللازم وجود الملزوم .  
انتهى .  
ويؤيده قوله تعالى :  لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا      ( الأنبياء : 22 ) فإن المقصود انتفاء وجود الآلهة ; لانتفاء لازمها وهو الفساد .  
ويمكن توجيه كلام النحويين بأنهم جعلوا الأول شرطا للثاني ; لأنهم عدوا " لو " من حروف الشرط ، وانتفاء الشرط يوجب انتفاء المشروط ، وقد يكون الشرط مساويا للمشروط ; بحيث يلزم من وجوده وجود المشروط ، ومن عدمه عدمه ، والمقصود في الآية تعليل عدم الرفع بعدم المشيئة لا العكس .  
وأوضح منه قوله تعالى :  ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون      ( الأعراف : 96 ) جعل انتفاء الملزوم سببا لانتفاء اللازم ; لأن " كذبوا " ملزوم عدم الإيمان والتقوى ، فأخذهم بذلك ملزوم عدم فتح بركات السماء والأرض عليهم ، والفاء في قوله : فأخذناهم للسببية ، وجعل التكذيب سببا لأخذهم بكفرهم ; ولعل ذلك يختلف باختلاف المواد ، ووقوع الأفراد مع أن القول ما قاله  ابن الخباز ،  وأما ما جاء على خلافه فذلك من خصوص المادة ، وذلك لا يقدح في القضية الكلية ، ألا ترى أنا نقول : الموجبة الكلية لا تنعكس كلية مع أنها تنعكس كلية في بعض المواضع ، كقولنا : كل إنسان ناطق ، ولا يعد ذلك مبطلا للقاعدة .  
				
						
						
