[ ص: 241 ] تنبيهان التنبيه الأول : أحدها : ما إذا كان مفعول المشيئة عظيما أو غريبا فإنه لا يحذف ; كقوله تعالى : يستثنى من هذه القاعدة ثلاثة أمور لو أراد الله أن يتخذ ولدا لاصطفى مما يخلق ما يشاء سبحانه الآية ، أراد رد قول الكفار : " اتخذ الله ولدا " بما يطابقه في اللفظ ; ليكون أبلغ في الرد ; لأنه لو حذفه فقال : " لو أراد الله لاصطفى " لم يظهر المعنى المراد ; لأن الاصطفاء قد لا يكون بمعنى التبني ، ولو قال : " لو أراد الله لاتخذ ولدا " لم يكن فيه ما في إظهاره من تعظيم جرم قائله .
ومثله الإمام أبو العباس الحلبي صاحب كتاب " القول الوجيز في استنباط علم البيان من الكتاب العزيز " بقوله تعالى : لو نشاء لقلنا مثل هذا ( الأنفال : 31 ) ، وقوله : فإن يشأ الله يختم على قلبك ( الشورى : 24 ) و من يشأ الله يضلله ومن يشأ يجعله على صراط مستقيم ( الأنعام : 39 ) وفيما ذكره نظر .
قلت : يجيء الذكر في مفعول الإرادة أيضا ; إذا كان كقوله تعالى : لو أردنا أن نتخذ لهوا ( الأنبياء : 17 ) .
الثاني : إذا احتيج لعود الضمير عليه فإنه يذكر كقوله : لو أردنا أن نتخذ لهوا لاتخذناه فإنه لو حذف لم يبق للضمير ما يرجع عليه .
[ ص: 242 ] وقد يقال : الضمير لم يرجع عليه ، وإنما عاد على معمول معموله .
الثالث : أن يكون السامع منكرا لذلك أو كالمنكر ، فيقصد إلى إثباته عنده ، فإن لم يكن منكرا فالحذف .
والحاصل أن حذف مفعول أراد وشاء لا يذكر إلا لأحد هذه الثلاثة .
التنبيه الثاني أنكر الشيخ أبو حيان في باب عوامل الجزم من شرح " التسهيل " هذه القاعدة وقال : غلط البيانيون في دعواهم لزوم حذف مفعول المشيئة ; إلا فيما إذا كان مستغربا ، وفي القرآن : لمن شاء منكم أن يستقيم ( التكوير : 28 ) ، لمن شاء منكم أن يتقدم أو يتأخر ( المدثر : 37 ) ، ولهم أن يقولوا : إن المفعول هاهنا عظيم ; فلهذا صرح به فلا غلط على القوم .
وأما قوله تعالى : فيقولون ماذا أراد الله بهذا مثلا ( البقرة : 26 ) فإذا جعلت " ماذا " بمعنى " الذي " فمفعول " أراد " متقدم عليه ، وإن جعلت " ذا " وحده بمعنى " الذي " فيكون مفعول " أراد " محذوفا ; وهو ضمير " ذا " ، ولا يجوز أن يكون " مثلا " مفعول " أراد " ; لأنه أحد معموليه ولكنه حال .
فصل : وقد كثر حذف مفعول أشياء غير ما سبق ; منها الصبر ، نحو : فاصبروا أو لا تصبروا ( الطور : 16 ) ، اصبروا وصابروا ( آل عمران : 200 ) .
وقد يذكر نحو : واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم ( الكهف : 38 ) قال في تفسير سورة الحجرات : قولهم : " صبر عن كذا " محذوف منه المفعول ; وهو النفس . الزمخشري
[ ص: 243 ] ومنها مفعول " رأى " ، كقوله : أعنده علم الغيب فهو يرى ( النجم : 35 ) .
قال الفارسي : الوجه أن " يرى " هنا للتعدية لمفعولين ; لأن رؤية الغائب لا تكون إلا علما ، والمعنى عليه قوله : عالم الغيب ( الجن : 26 ) ، وذكره العلم قال : والمفعولان محذوفان ، فكأنه قال : " فهو يرى الغائب حاضرا " أو حذف كما حذف في قوله : أين شركاؤكم الذين كنتم تزعمون ( الأنعام : 22 ) أي : تزعمونهم إياهم .
وقال : هو من باب الحذف لدليل ; لأن المعنى دال على المفعولين ; أي : فهو يعلم ما يفعله ويعتقده حقا وصوابا ، ولا فائدة في الآية مع الاقتصار ; لأنه لا يعلم منه المراد ، وقد ذهب إليه بعض المحققين وعدل عن الصواب . ابن خروف
ومنها " وعد " يتعدى إلى مفعولين ، ويجوز الاقتصار على أحدهما كأعطيت ، قال تعالى : وواعدناكم جانب الطور الأيمن ( طه : 80 ) فـ " جانب " مفعول ثان ، ولا يكون ظرفا لاختصاصه ، والتقدير : واعدناكم إتيانه أو مكثا فيه .
وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم مغفرة ( المائدة : 9 ) .
وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم ( الأنفال : 7 ) فإحدى الطائفتين في موضع نصب بأنه المفعول الثاني ; و " أنها لكم " بدل منه ، والتقدير : وإذ يعدكم الله ثبات إحدى الطائفتين أو ملكها .
وقال تعالى : وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض ( النور : 55 ) فلم يتعد الفعل فيها إلا إلى واحد ، ليستخلفنهم تفسير [ ص: 244 ] للوعد ومبين له ; كقوله تعالى : يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين ( النساء : 11 ) فالجملة الثانية تبيين للوصية لا مفعول ثان .
وأما قوله : ألم يعدكم ربكم وعدا حسنا ( طه : 86 ) ، إن الله وعدكم وعد الحق ( إبراهيم : 22 ) ، فإن هذا ونحوه يحتمل أمرين : انتصاب الوعد بالمصدر ، وبأنه المفعول الثاني على تسمية الموعود به وعدا .
وأما قوله تعالى : وإذ واعدنا موسى أربعين ليلة ( البقرة : 51 ) فمما تعدى فيه " وعد " إلى اثنين ; لأن الأربعين لو كان ظرفا لكان الوعد في جميعه ، يعني من حيث إنه معدود ; فيلزم وقوع المظروف في كل فرد من أفراده ، وليس الوعد واقعا في " الأربعين " بل ولا في بعضها .
ثم قدر الواحدي وغيره محذوفا مضافا إلى " الأربعين " وجعلوه المفعول الثاني ، فقالوا : التقدير : " وإذ واعدنا موسى انقضاء أربعين ليلة ، أو تمام أربعين " ثم حذف ، وأقيم المضاف إليه مقامه .
قال بعضهم : ولم يظهر لي وجه عدولهم عن كون " أربعين " هو نفس المفعول إلى تقدير هذا المحذوف ; إلا أن يقال : نفس الأربعين ليلة لا توعد ; لأنها واجبة الوقوع ، وإنما المعنى على تعليق الوعد بابتدائها وتمامها ; ليترتب على ذلك الانتهاء شيء .
قلت : وقال أبو البقاء : ليس أربعين ظرفا ; إذ ليس المعنى وعده في أربعين .
وقال غيره : لا يجوز أن يكون ظرفا ; لأنه لم يقع الوعد في كل من أجزائه ولا في بعضه .
[ ص: 245 ] ومنها " اتخذ " تتعدى لواحد أو لاثنين ، فمن الأول قوله تعالى : لو أردنا أن نتخذ لهوا لاتخذناه من لدنا ( الأنبياء : 17 ) ، واتخذوا من دونه آلهة ( الفرقان : 3 ) ، أم اتخذ مما يخلق بنات ( الزخرف : 16 ) ، ياليتني اتخذت مع الرسول سبيلا ( الفرقان : 27 ) .
ومن الثاني : اتخذوا أيمانهم جنة ( المنافقون : 2 ) ، لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء ( الممتحنة : 1 ) ، فاتخذتموهم سخريا ( المؤمنون : 110 ) ، والثاني من المفعولين هو الأول في المعنى .
قال الواحدي : فأما قوله تعالى : ثم اتخذتم العجل من بعده ( البقرة : 51 ) ، وقوله : باتخاذكم العجل ( البقرة : 54 ) ، اتخذوه وكانوا ظالمين ( الأعراف : 148 ) ، إن الذين اتخذوا العجل ( الأعراف : 152 ) ، فالتقدير في هذا كله : اتخذوه إلها ، فحذف المفعول الثاني .
والدليل على ذلك أنه لو كان على ظاهره لكان من صاغ عجلا أو نحوه ، أو عمله بضرب من الأعمال استحق الغضب من الله ; لقوله : سينالهم غضب من ربهم ( الأعراف : 152 ) .
وفيما قاله نظر ; لأن الواقع أن أولئك عبدوه ، فالتقدير على هذا في المتعدي لواحد : أن الذين اتخذوا العجل وعبدوه ; ولهذا جوز الشيخ أثير الدين في هذه الآيات كلها أن تكون " اتخذ " فيها متعدية إلى واحد ، قال : ويكون ثم جملة محذوفة تدل على المعنى ، وتقديره : " وعبدتموه إلها " ورجحه على القول الآخر بأنها لو كانت متعدية في هذه القصة لاثنين لصرح بالثاني ولو في موضع واحد .
[ ص: 246 ] الضرب الثاني ألا يكون المفعول مقصودا أصلا ; وينزل الفعل المتعدي منزلة القاصر ; وذلك عند إرادة وقوع نفس الفعل فقط ; وجعل المحذوف نسيا منسيا كما ينسى الفاعل عند بناء الفعل ، فلا يذكر المفعول ولا يقدر ، غير أنه لازم الثبوت عقلا لموضوع كل فعل متعد ; لأن الفعل لا يدرى تعيينه .
وبهذا يعلم أنه ليس كل ما هو لازم من موضوع الكلام مقدرا فيه ; كقوله تعالى : فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا ( البقرة : 24 ) .
وقوله : كلوا واشربوا ( البقرة : 60 ) ; لأنه لم يرد الأكل من معين ، وإنما أراد وقوع هذين الفعلين .
وقوله : هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون ( الزمر : 9 ) ، ويسمى المفعول حينئذ مماتا .
ولما كان التحقيق أنه لا يعد هذا من المحذوف ، فإنه لا حذف فيه بالكلية ، ولكن تبعناهم في العبارة ; نحو : فلان يعطي ; قاصدا أنه يفعل الإعطاء .
وتوجد هذه الحقيقة إيهاما للمبالغة ، بخلاف ما يقصد فيه تعميم الفعل ; نحو : هو يعطي ويمنع ، فإنه أعم تناولا من قولك : يعطي الدرهم ويمنعه ; والغالب أن هذا يستعمل في النفي ، كقوله : وتركهم في ظلمات لا يبصرون ( البقرة : 17 ) ، والآخر في الإثبات كقوله : إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون ( الروم : 24 ) .
[ ص: 247 ] ومن أمثلة هذا الضرب قوله تعالى : يحيي ويميت ( البقرة : 258 ) .
وقوله : لم تعبد ما لا يسمع ( مريم : 42 ) .
وقوله : ولما ورد ماء مدين وجد عليه أمة من الناس ( القصص : 23 ) إلخ . . . الآية ، حذف منها المفعول خمس مرات ; لأنه غير مراد ; وهو قوله : يسقون ، وقوله : تذودان ، وقوله : لا نسقي حتى يصدر ( القصص : 23 ) ، فيمن قرأ بكسر الدال ، وقوله : فسقى لهما والتقدير : " يسقون مواشيهم وتذودان عنهما ولا نسقي عنها حتى يصدر الرعاء مواشيهم فسقى لهما غنمهما .
وقوله : لنخرجنك ياشعيب ( الأعراف : 88 ) ، قيل : لو ذكر المفعول فيها نقص المعنى والمراد : أن الله تعالى له الإحياء والإماتة ; وأن إلههم ليس له سمع ولا بصر ، وأن موسى عليه السلام وجد قوما يعانون السقي ، وامرأتين تعانيان الذود ، وأخبرتاه أنا لا نستطيع السقي ; فوجدا من موسى عليه السلام لهما السقي ، ووجد من أبيهما مكافأة على السقي ، وهذا مما حذف لظهور المراد ، وأن القصد الإعلام بأنه كان من الناس في تلك الحالة سقي ومن المرأتين ذود ، وأنهما قالتا : لا يكون منا سقي حتى يصدر الرعاء ، وأن موسى سقى بعد ذلك ; فأما أن المسقي غنم أو إبل أو غيره فخارج عن المقصود ; لأنه لو قيل : يذودان غنمهما لجاز أن يكون الإنكار لم يتوجه من موسى عليه السلام على الذود من حيث هو ذود ، بل من حيث هو ذود غنم ; حتى لو كان ذود إبل لم ينكره .
واعلم أنا جعلنا هذا من الضرب الثاني موافقة فإنه قال : ترك المفعول لأن الغرض هو الفعل لا المفعول ، ألا ترى أنه إنما رحمهما لأنهما كانتا على الذياد وهم على السقي ، ولم يرحمهما ; لأن مذودهما غنم ومسقيهم إبل ، وكذلك قولهما : للزمخشري ; لا نسقي حتى يصدر الرعاء ( القصص : 23 ) المقصود منه السقي لا المسقي .
[ ص: 248 ] وجعله السكاكي من الضرب الأول ; أعني مما حذف فيه للاختصار مع الإرادة .
والأقرب قول ورجح الحريري قول الزمخشري ، السكاكي أنه للاختصار ، فإن الغنم ليست ساقطة عن الاعتبار بالأصالة ; فإن فيها ضعفا عن المزاحمة ، والمرأتان فيهما ضعف ، فإذا انضم إلى ضعف المسقي ضعف الساقي كان ذلك أدعى للرحمة والإعانة .
وكقوله تعالى : فأما من أعطى واتقى ( الليل : 5 ) .
وقوله : وأنه هو أغنى وأقنى ( النجم : 48 ) .
وقوله : وأنه هو أضحك وأبكى وأنه هو أمات وأحيا ( النجم : 43 - 44 ) .
وإنما ذكر المفعول في قوله : وأنه خلق الزوجين الذكر والأنثى ( النجم : 45 ) ; لأن المراد جنس الزوجين ; فكأنه قال : يخلق كل ذكر وكل أنثى ، وكان ذكره هنا أبلغ ; ليدل على عموم ثبوت الخلق له بالتصريح .
وليس منه قوله تعالى : وأصلح لي في ذريتي ( الأحقاف : 15 ) ; لوجود العوض من المفعول به لفظا ، أو هو المفعول به ، وهو قوله : في ذريتي ( الأحقاف : 15 ) ، ومعنى الدعاء به قصر الإصلاح له على الذرية ; إشعارا بعنايته بهم .
وقوله : كلا سوف تعلمون ثم كلا سوف تعلمون ( التكاثر : 3 - 4 ) ، أي : عاقبة أمركم ; لأن سياق القول في التهديد والوعيد .
[ ص: 249 ] واعلم أن الغرض حينئذ بالحذف في هذا الضرب أشياء : منها البيان بعد الإبهام كما في فعل المشيئة على ما سبق ; نحو : أمرته فقام ; أي : بالقيام ، وعليه قوله تعالى : أمرنا مترفيها ففسقوا فيها ( الإسراء : 16 ) ، أي : أمرناهم بالفسق ، وهو مجاز عن تمكينهم وإقدارهم .
ومنها المبالغة بترك التقييد نحو : هو يحيي ويميت ( يونس : 56 ) ، وقوله : فهم لا يبصرون ( يس : 9 ) ، ونفي الفعل غير متعلق أبلغ من نفيه متعلقا به ; لأن المنفي في الأول نفس الفعل ، وفي الثاني متعلقه .
تنبيه قد يلحظ الأمران فيجوز الاعتباران ; كقوله تعالى : ياأيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله ( الحجرات : 1 ) ، أجاز في حذف المفعول منه الوجهين . الزمخشري
وكذلك في قوله في آخر سورة الحج : وجاهدوا في الله ( الحج : 78 ) .