فصل
من الأنواع ما ؛ وهو قسمان : حذف في آية وأثبت في أخرى
[ ص: 286 ] أحدهما : أن يكون ما حذف منه محمولا على المذكور ؛ وهذا كالمطلق في الرقبة في كفارة الظهار مقيدا بالمؤمنة في كفارة القتل .
وكقوله : وجنة عرضها السماوات والأرض ( آل عمران : 133 ) قيدت بالتشبيه في موضع آخر .
ومنه قوله تعالى في سورة البقرة : هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة ( البقرة : 210 ) وقوله في سورة النحل : هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي أمر ربك ( النحل : 33 ) فإن هذه تقتضي أن الأولى على حذف مضاف .
والقسم الثاني : لا يكون مرادا ، فمنه قوله تعالى في سورة المؤمنين : لكم فيها فواكه كثيرة ومنها تأكلون ( المؤمنون : 19 ) وفي الزخرف : لكم فيها فاكهة كثيرة منها تأكلون ( الزخرف : 179 ) .
وقوله في سورة البقرة : أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون ( الآية : 5 ) وفي سورة الأعراف : أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون ( الآية : 179 ) .
وحكمته أنه قد اختلف الخبران في سورة البقرة ؛ فلذلك دخل العاطف ، بخلاف الخبرين [ ص: 287 ] في الأعراف ، فإنهما متفقان ؛ لأن التسجيل عليهم بالغفلة وتشبيههم بالبهائم واحد ، فكانت الجملة الثالثة مقررة ما في الأولى ، فهي من العطف بمعزل .
ومنه قوله تعالى في البقرة : إن الذين كفروا سواء عليهم ( البقرة : 6 ) وقال في يس : وسواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم ( يس : 10 ) مع العاطف ، وحكمته أن ما في ( يس ) وما بعده جملة معطوفة على جملة أخرى ، فاحتاجت إلى العاطف ، والجملة هنا ليست معطوفة فهي من العطف بمعزل .
ومنه قوله تعالى : وإن تدعوهم إلى الهدى لا يتبعوكم ( الأعراف : 193 ) فأثبت الواو في الأعراف وحذفها في الكهف ، فقال : وإن تدعهم إلى الهدى ( الكهف : 57 ) والفرق بينهما أن الذي في الأعراف خطاب لجمع ، وأصله " تدعونهم " حذفت النون للجزم ، والتي في الكهف خطاب للنبي - صلى الله عليه وسلم - وهو واحد ، وعلامة الجزم فيه سقوط الواو .
ومنه في آل عمران : جاءوا بالبينات والزبر والكتاب المنير ( آل عمران : 184 ) وفي فاطر : جاءتهم رسلهم بالبينات وبالزبر وبالكتاب المنير ( فاطر : 25 ) والفرق بينهما أن الأولى حذفت الباء فيها للاختصار استغناء بالتي قبلها ، والثانية خرجت عن الأصل للتوكيد ، وتقدير المعنى كما تقول : مررت بك وبأخيك وبأبيك ؛ إذا اختصرت .
ومنه قوله في قصة ثمود : ما أنت إلا بشر مثلنا ( الشعراء : 154 ) وفي قصة شعيب : وما أنت ( الشعراء : 186 ) بالواو ، والفرق أن الأولى جرى على انقطاع الكلام عند النحويين ، واستئناف : ما أنت ( الشعراء : 154 ) فاستغنى عن الواو لما تقرر من الابتداء ، [ ص: 288 ] وفي الثانية جرى في العطف ، وأن يكون قوله : وما أنت ( الشعراء : 186 ) معطوفا على : إنما أنت ( الشعراء : 185 ) .
ومنه قوله تعالى في سورة النحل : ولا تحزن عليهم ولا تك في ضيق مما يمكرون ( الآية : 127 ) وفي سورة النمل : ولا تكن في ضيق ( الآية : 70 ) بإثبات النون ، وحكمته أن القصة لما طالت في سورة النحل ناسب التخفيف بحذف النون ، بخلافه في سورة النمل ، فإن الواو استئنافية ، ولا تعلق لها بما قبلها .
وقوله في البقرة : فلا تكونن من الممترين ( الآية : 147 ) وفي آل عمران : فلا تكن من الممترين ( الآية : 60 ) وحكمته أن الخطاب في البقرة لليهود وهم أشد جدالا .
ومنه قوله تعالى في الأعراف : ألست بربكم قالوا بلى شهدنا ( الآية : 172 ) وفي الأنعام : يامعشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي وينذرونكم لقاء يومكم هذا قالوا شهدنا على أنفسنا ( الآية : 130 ) .
ومنه قوله تعالى في سورة البقرة : ويقتلون النبيين بغير الحق ( الآية : 61 ) وفي سورة آل عمران : بغير حق ( الآية : 21 ) والحكمة فيه أن الجملة في آل عمران خرجت مخرج الشرط ، وهو عام ، فناسب أن يكون النفي بصيغة التنكير ؛ حتى يكون عاما ، [ ص: 289 ] وفي سورة البقرة جاء عن أناس معهودين ، وهو قوله تعالى : ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير الحق ( الآية : 61 ) فناسب أن يؤتى بالتعريف ؛ لأن الحق الذي كان يستباح به قتل الأنفس عندهم كان معروفا ، كقوله تعالى : وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس ( المائدة : 45 ) فالحق هنا الذي تقتل به الأنفس معهود معروف ، بخلاف ما في سورة آل عمران .
ومنه قوله تعالى في سورة هود حاكيا عن شعيب : ويا قوم اعملوا على مكانتكم إني عامل سوف تعلمون ( الآية : 93 ) وأمر نبينا - صلى الله عليه وسلم - أن يقول لقريش : ليكفروا بما آتيناهم فتمتعوا فسوف تعلمون ( النحل : 55 ) .
ويمكن أن يقال : لما كررت مراجعته لقومه ، ناسب اختصاص قصته بالاستئناف الذي هو أبلغ في الإنذار والوعيد ؛ وأما نبينا - صلى الله عليه وسلم - فكانت مدة إنذاره لقومه قصيرة ، فعقب عملهم على مكافأتهم بوعيدهم بالفاء ؛ إشارة إلى قرب نزول الوعيد لهم ، بخلاف شعيب فإنه طالت مدته في قومه فاستأنف لهم ذكر الوعيد .
ولعل قوم شعيب سألوه السؤال المتقدم ، فأجابهم بهذا الجواب ، والفاء لا تحسن فيه ، والنبي - صلى الله عليه وسلم - لم يقل ذلك جوابا للسؤال ، ولا يحسن معه الحذف .
ومنه أنه تعالى قال في خطاب المؤمنين : هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم ( الصف : 10 ) إلى أن قال : يغفر لكم ذنوبكم ( الصف : 12 ) وقال في خطاب الكافرين : يدعوكم ليغفر لكم من ذنوبكم ( إبراهيم : 10 ) ياقومنا أجيبوا داعي الله وآمنوا به يغفر لكم من ذنوبكم ( الأحقاف : 31 ) .
[ ص: 290 ] قال في تفسير سورة إبراهيم : ما علمته جاء الخطاب هكذا في القرآن إلا في خطاب الكافرين ، وكان ذلك للتفرقة بين الخطابين ، ولئلا يسوى بين الفريقين في الميعاد . الزمخشري
واعترض الإمام فخر الدين بأن هذا التبعيض إن حصل فلا حاجة إلى ذكر هذا الجواب ، وإن لم يحصل كان هذا الكلام فاسدا .
وقال الشيخ أثير الدين أبو حيان في " تفسيره " : ويقال : ما فائدة إذ الكافر إذا آمن ، والمؤمن إذا تاب مشتركان في الغفران ، وما تخيلت فيه مغفرة بعض الذنوب من الكافر إذا هو آمن موجود في المؤمن إذا تاب ، وسيأتي بسط الكلام على ذلك في آخر الكتاب ، عند الكلام على ( من ) . الفرق في الخطاب والمعنى مشترك ؟
فصل
ومن لواحق ذلك في سورة النساء الإدغام في موضع وتركه في آخر ، ومن يشاقق الرسول ( الآية : 115 ) وفي الأنفال : ومن يشاقق الله ورسوله ( الآية : 13 ) وجاء بالإدغام في الحشر ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله ومن يشاق الله ( الآية : 4 ) وذلك لأن الإدغام تخفيف وليس بالأصيل فورد في النساء على الأصل ، ولم يقترن به ما يقتضي تخفيفه ، ولما تقدم في سورة الحشر قوله : ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله وتقدم الماضي مدغما ولم يسمع في الماضي فجيء بما حمل عليه من قوله : ومن يشاق الله مدغما ليحصل التناسب .
[ ص: 291 ] وأما سورة الأنفال فتعارض فيها شيئان : مجيء الإدغام قبله في الماضي من قوله : ذلك بأنهم شاقوا الله وعطف ورسوله على اسم الله وقد وردت نسبة المشاقة لله ورسوله ورد ذلك بالعطف بالواو الجامعة ، وهو مما يناسب الشك ، فاستدعى الموضع داعيان :
أحدهما : ما قبل من الإدغام .
والثاني : ما بعده من العطف المشبه للفظ ، فروعي البعدي لأنه أقوى من القبلي كما فعلوا في " الأمام " فلم يميلوا نحو " مناشيط " ونحوه مما تأخر فيه حرف الاستعلاء ، وإن حال بينه وبين الألف حرفان ، ومع ذلك فإنه ينفع الإمالة ، وليس ذلك في قوة المنع إذا تقدم مع حائل .
ومنه في الأنعام : فأخذناهم بالبأساء والضراء لعلهم يتضرعون ( الآية : 42 ) بالإدغام ووجه أن العرب تراعي مجاورة الألفاظ فيحمل اللفظ على مجاورة المشاكلة للمشاكلة القطعية ، وفيه الاتباع في " نسوك وبنوك " والأصل بنيك ، وماضي الفعل من الضراعة لا إدغام فيه إنما نقول " يضرع " إذ لا حرف مضارعة فيه يسوغ الإدغام فلما أورد الماضي فيما بني على آية الأنعام من قوله فلولا إذ جاءهم بأسنا تضرعوا ( الآية : 43 ) ولا إدغام فيه ورد الأول مفكوكا غير مدغم دعيا للمناسبة بخلاف آية الأعراف ، إذ لم يرد فيه ما يستدعي هذه المناسبة فجاء مدغما على الوجه الأخف ، إذ لا يقتضي خلافه .
ومنه : فمن تبع هداي في البقرة 38 فمن اتبع هداي في طه 123 وكذلك في الأنعام والزيتون والرمان مشتبها وغير متشابه ( الآية : 99 ) وقال بهذه في هذه السورة والزيتون والرمان متشابها وغير متشابه ( الآية : 141 ) فورد في آخر الأمر على أخف التباين وفي الثاني على أثقلهما دعيا للترتيب .