قاعدة
هذا هو الجادة في القرآن كقوله تعالى : إذا اجتمع الحمل على اللفظ والمعنى بدئ باللفظ ثم بالمعنى ، ومن الناس من يقول آمنا ( البقرة : 8 ) أفرد أولا باعتبار اللفظ ، ثم جمع ثانيا باعتبار المعنى ، فقال : وما هم بمؤمنين ( البقرة : 8 ) فعاد الضمير مجموعا كقوله تعالى : ومن يؤمن بالله ويعمل صالحا يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار ( الطلاق : 11 ) فعاد الضمير من " يدخله " مفردا على لفظ " من " [ ص: 441 ] ثم قال : " خالدين " ، وهو حال من الضمير .
وقوله : ومنهم من يستمع إليك وجعلنا على قلوبهم ( الأنعام : 25 ) .
وقوله : ومنهم من يقول ائذن لي ولا تفتني ألا في الفتنة سقطوا ( التوبة : 49 ) .
وقوله : ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدقن ( التوبة : 75 ) إلى قوله : فلما آتاهم من فضله بخلوا به ( التوبة : 76 ) .
وقد يجري الكلام على أوله في الإفراد ، كقوله تعالى : ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على ما في قلبه وهو ألد الخصام الآيتين ، فكرر فيها ثمانية ضمائر ، كلها عائد على لفظ " من " ، ولم يرجع منها شيء على معناها مع أن المعنى على الكثرة .
وقد يقتصر على معناها في الجميع كقوله تعالى في سورة يونس : ومنهم من يستمعون إليك ( يونس : 42 ) وما ذكرنا من البداءة باللفظ عند الاجتماع هو الكثير ، قال الشيخ علم الدين العراقي : ولم يجئ في القرآن البداءة بالحمل على المعنى إلا في موضع واحد ، وهو قوله تعالى : وقالوا ما في بطون هذه الأنعام خالصة لذكورنا ومحرم على أزواجنا ( الأنعام : 139 ) فأنث " خالصة " حملا على معنى " ما " ثم راعى اللفظ فذكر ، وقال : ومحرم على أزواجنا .
واعترض بعض الفضلاء وقال : إنما يتم ما قاله من البداءة بالحمل على المعنى في ذلك ؛ إذا كان الضمير الذي في الصلة التي هي ( في بطون هذه الأنعام ) يقدر مؤنثا ؛ أما إذا قدر مذكرا فالبداءة إنما هو بالحمل على اللفظ .
وأجيب بأن لأن اعتبار الأمرين أو [ ص: 442 ] أحدهما إنما يظهر في اللفظ ، وإذا كان كذلك صدق أنه إنما بدئ في الآية بالحمل على المعنى ، فيتم كلام اعتبار اللفظ والمعنى أمر يرجع إلى الأمور التقديرية ؛ العراقي .
ونقل الشيخ أبو حيان في " تفسيره " عن ابن عصفور أن الكوفيين لا يجيزون إلا بفاصل بينهما ، ولم يعتبر البصريون الفاصل ، قال : ولم يرد السماع إلا بالفاصل كما ذهب إليه الكوفيون ، ونازعه الشيخ الجمع بين الجملتين أثير الدين بقوله تعالى : وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى ( البقرة : 111 ) وقال : ألا تراه كيف جمع بين الجملتين دون فصل . انتهى .
والذي ذكره ابن عصفور في " شرح المقرب " شرط الكوفيون في جواز اعتبار اللفظ بعد اعتبار المعنى الفصل ؛ فيجوزون : من يقومون اليوم وينظر في أمرنا إخوتنا ، ولا يجوزون : من يقومون وينظر في أمرنا إخوتنا ؛ لعدم الفصل ، وإنما ورد السماع بالفصل . انتهى .
وهذا يقتضي أن الكوفيين لا يشترطون إلا أن يقدم اعتبار المعنى ويؤخر اعتبار اللفظ كما في قوله تعالى : الفصل عند اجتماع الجملتين ؛ وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى إنما بدئ فيه بالحمل على اللفظ .
وقال : إذا حمل على اللفظ جاز الحمل بعده على المعنى وإذا حمل على المعنى ضعف الحمل بعده على اللفظ ؛ لأن المعنى أقوى فلا يبعد الرجوع إليه بعد اعتبار اللفظ ، ويضعف بعد اعتبار المعنى القوي الرجوع إلى الأضعف . ابن الحاجب
[ ص: 443 ] وهذا معترض بأن وكثرة موارده تدل على قوله ؛ وأما العود إلى اللفظ بعد اعتبار المعنى فقد ورد به التنزيل ، كما ورد باعتبار المعنى بعد اعتبار اللفظ ، فثبت أنه يجوز الحمل على كل واحد منهما ، بعد الآخر من غير ضعف . الاستقراء دل على أن اعتبار اللفظ أكثر من اعتبار المعنى ،
وأما قوله تعالى : ومن يقنت منكن لله ورسوله وتعمل صالحا نؤتها ( الأحزاب : 31 ) فقرأه الجماعة بتذكير " يقنت " حملا على لفظ " من " في التذكير . و ( تعمل ) بالتأنيث حملا على معناها لأنها للمؤنث ، وقرأ حمزة " يعمل " بالتذكير فيهما حملا على لفظها رعاية للمناسبة في المتعاطفين ، وتوجيه الجماعة أنه لما تقدم على الثاني صريح التأنيث في ( منكن ) حسن الحمل على المعنى . والكسائي
وقال أبو الفتح في " المحتسب " : لا يجوز وقد يورد عليه قوله : مراجعة اللفظ بعد انصرافه عنه إلى المعنى ، ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطانا فهو له قرين وإنهم ليصدونهم عن السبيل ويحسبون أنهم مهتدون ( الزخرف : 36 - 37 ) ثم قال : حتى إذا جاءنا ( الزخرف : 38 ) فقد راجع اللفظ بعد الانصراف عنه إلى المعنى ، إلا أن يقال : إن الضمير في " جاء " يرجع إلى الكافر لدلالة السياق عليه لا إلى " من " .
ومنه الفرق بين : " أسقى " و " سقى " بغير همز ؛ لما لا كلفة معه في السقيا ، ومنه قوله تعالى : وسقاهم ربهم شرابا طهورا ( الدهر : 21 ) فأخبر أن السقيا في الآخرة لا يقع فيها كلفة ، بل جميع ما يقع فيها من الملاذ يقع فرصة وعفوا ، بخلاف ( أسقى ) بالهمزة ؛ [ ص: 444 ] فإنه لا بد فيه من الكلفة بالنسبة للمخاطبين كقوله تعالى : وأسقيناكم ماء فراتا ( المرسلات : 27 ) لأسقيناهم ماء غدقا ( الجن : 16 ) لأن الإسقاء في الدنيا لا يخلو من الكلفة أبدا .
ومنه قوله تعالى : والأرض مددناها وألقينا فيها رواسي وأنبتنا فيها من كل شيء موزون ( الحجر : 19 ) قال أبو سلمة محمد بن بحر الأصبهاني في تفسيره : إنما خص الموزون بالذكر دون المكيل لأمرين :
أحدهما : أن غاية المكيل ينتهي إلى الموزون ؛ لأن سائر المكيلات إذا صارت قطعا دخلت في باب الموزون وخرجت عن المكيل ، فكان الوزن أعم من المكيل .
والثاني : أن في الموزون معنى المكيل ؛ لأن الوزن هو طلب مساواة الشيء بالشيء .
ومقايسته وتعديله به ، وهذا المعنى ثابت في المكيل ، فخص الوزن بالذكر لاشتماله على معنى المكيل .
وقال في " الغرر " : هذا خلاف المقصود ؛ بل المراد بالموزون القدر الواقع بحسب الحاجة ، فلا يكون ناقصا عنها ولا زائدا عليها زيادة مضرة . الشريف المرتضى
ومنه قوله تعالى : فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما ( العنكبوت : 14 ) فذكر في مدة اللبث السنة ، وفي الانفصال العام ؛ للإشارة إلى أنه كان في شدائد في مدته كلها ، [ ص: 445 ] إلا خمسين عاما قد جاءه الفرج والغوث ؛ فإن السنة تستعمل غالبا في موضع الجدب ، ولهذا سموا شدة القحط سنة .
قال السهيلي : ويجوز أن يكون الله سبحانه قد علم أن عمره كان ألفا ؛ إلا أن الخمسين منها كانت أعواما ، فيكون عمره ألف سنة ينقص منها ما بين السنين الشمسية والقمرية في الخمسين خاصة ؛ لأن الخمسين عاما بحسب الأهلة أقل من خمسين سنة شمسية ، بنحو من عام ونصف .
وابن على هذا المعنى قوله : في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة ( المعارج : 4 ) وقوله : ألف سنة مما تعدون ( السجدة : 5 ) فإنه كلام ورد في موضع التكثير والتتميم بمدة ذلك اليوم ، والسنة أطول من العام .