فصل : وإذا جاز إذا لم يضر بمار ولا مجتاز ، وكذلك إذا أراد إخراج سماط يمده على عرض الطريق مكن إن لم يضر ومنع إن أضر ، فاختلف أصحابنا في حد ضرره ، فقال أشرع من داره جناحا على طريق نافذة أبو عبيد بن حربويه : ما ناله رمح الفارس مضر ، وما لم ينله رمحه غير مضر .
وقال جمهور أصحابنا : إن ما لا يناله أشرف الجمال إذا كان عليها أعلى العماريات فهو غير مضر وما يناله ذلك فهو مضر ، وهذا الحد عندي على الإطلاق غير صحيح ، بل يجب أن يكون معتبرا بأحوال البلاد ، فما كان منها تسلكه جمال العماريات كان هذا حد ضرره ، وما كان منها لا تسلكه جمال العماريات وتسلكه الأجمال ، كان الجمل بحمله حد ضرره ، وما كان منها لا تسلكه الجمال وتسلكه الخيل بفرسانها كان أشرف الفرسان على أشرف الخيل حد ضرره ، وما كان منها لا تسلكه الخيل ولا الركاب كجزائر في البحر وقرى في البطائح كان أطول الرجال بأعلى حمل على رأسه هو حد ضرره : لأن عرف كل بلد أولى أن يكون معتبرا من عرف ما عداه ، إذا كان غير موجود فيه وإذا كان غير مضر أقر ولم يكن لأحد أن يعترض عليه ولا يمنعه منه .
وقال أبو حنيفة : يقر على ما لا يضر إذا لم يعترض عليه أحد من المسلمين ، فإن اعترض عليه أحدهم منع منه وأخذ بقلعه احتجاجا بأنه لما منع من بناء دكة في عرصة الطريق منع من إشراع جناح في هوائه ، وهذا فاسد من وجهين :
أحدهما : ما روي أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - مر بدار العباس بن عبد المطلب فقطر عليه من ميزابها ماء فأمر بقلعه ، فخرج العباس وقال : قلعت ميزابا نصبه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيده ؟ فقال عمر : والله لا صعد من يعيد هذا الميزاب إلا على ظهري . [ ص: 382 ] فصعد العباس على ظهره حتى أعاد الميزاب إلى موضعه فدل ما كان من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في نصبه ومن عمر في إعادته ومن الصحابة في إقرارهم عليه على أنه شرع منقول وفعل متبوع .
والثاني : مشاهدة رسول الله صلى الله عليه وسلم له إلى ما وطئه من البلاد وفيها الأجنحة والميازيب فما أنكرها وأقر أهلها عليها ، وجرى خلفاؤه وصحابته رضي الله عنهم على عادته في إقرارها بعد موته ، وقد سلكوا من البلاد أكثر مما سلك ، وشاهدوا من اختلاف أحوالها أكثر مما شاهد ، فلم يوجد أحد عارض فيه أحدا ، فدل على انعقاد الإجماع فيه وزوال الخلاف عنه ، وخالفت الأجنحة الدكاك ، لأن الدكاك مضرة بالمجتازين مضيقة لطرقاتهم وليس في الأجنحة مضرة ولا تضييق .