الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
صفحة جزء
القسم الثامن والعشرون التعليل بأن يذكر الشيء معللا ; فإنه أبلغ من ذكره بلا علة ، لوجهين : أحدهما : أن العلة المنصوصة قاضية بعموم المعلول ; ولهذا اعترفت الظاهرية بالقياس في العلة المنصوصة .

الثاني : أن النفوس تنبعث إلى نقل الأحكام المعللة ، بخلاف غيرها ; وغالب التعليل [ ص: 166 ] في القرآن ، فهو على تقدير جواب سؤال اقتضته الجملة الأولى ، وهو سؤال عن العلة .

ومنه : إن النفس لأمارة بالسوء ( يوسف : 53 ) إن زلزلة الساعة شيء عظيم ( الحج : 1 ) إن صلاتك سكن لهم ( التوبة : 103 ) .

وتوضيح التعليل أن الفاء السببية لو وضعت مكان " إن " لحسن .

والطرق الدالة على العلة أنواع : الأول : التصريح بلفظ الحكم ; كقوله تعالى : حكمة بالغة ( القمر : 5 ) .

وقال : وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة ( النساء : 113 ) ، والحكمة هي العلم النافع والعمل الصالح .

الثاني : أنه فعل كذا لكذا ، أو أمر بكذا لكذا ، كقوله تعالى : ذلك لتعلموا أن الله يعلم ما في السماوات وما في الأرض ( المائدة : 97 ) .

وقوله تعالى : الله الذي خلق سبع سماوات ومن الأرض مثلهن يتنزل الأمر بينهن لتعلموا ( الطلاق : 12 ) .

جعل الله الكعبة البيت الحرام قياما للناس ( المائدة : 97 ) .

لئلا يعلم أهل الكتاب ( الحديد : 29 ) .

وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم ( البقرة : 143 ) .

وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به ( الأنفال : 11 ) .

وما جعله الله إلا بشرى لكم ولتطمئن قلوبكم به ( آل عمران : 126 ) وهو كثير .

فإن قيل : اللام فيه للعاقبة ; كقوله تعالى : فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوا وحزنا ( القصص : 8 ) وقوله : ليجعل ما يلقي الشيطان فتنة ( الحج : 53 ) وإنما قلنا ذلك لأن أفعال الله تعالى لا تعلل .

فالجواب أن معنى قولنا : إن أفعال الله تعالى لا تعلل ، أي : لا تجب ; ولكنها لا تخلو عن الحكمة ، وقد أجاب الملائكة عن قولهم : أتجعل فيها من يفسد فيها ( البقرة : 30 ) بقوله : إني أعلم ما لا تعلمون ( البقرة : 30 ) .

[ ص: 167 ] ولو كان فعله سبحانه مجردا عن الحكم والغايات لم يسأل الملائكة عن حكمته ، ولم يصح الجواب بكونه يعلم ما لا يعلمون من الحكمة والمصالح ، وفرق بين العلم والحكمة ; ولأن لام العاقبة إنما تكون في حق من يجهل العاقبة كقوله : فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوا وحزنا ( القصص : 8 ) وأما من هو بكل شيء عليم فمستحيلة في حقه ; وإنما اللام الواردة في أحكامه وأفعاله لام الحكمة والغاية المطلوبة من الحكمة . ثم قوله : ليكون لهم عدوا وحزنا هو تعليل لقضاء الله بالتقاطه وتقديره لهم ، فإن التقاطهم له إنما كان بقضائه وقدره ، وذكر فعلهم دون قضائه ; لأنه أبلغ في كونه حزنا لهم وحسرة عليهم .

قاعدة تفسيرية : حيث دخلت واو العاطف على لام التعليل فله وجهان : أحدهما : أن يكون تعليلا معلله محذوف ; كقوله تعالى : وليبلي المؤمنين منه بلاء حسنا ( الأنفال : 17 ) فالمعنى : وللإحسان إلى المؤمنين فعل ذلك .

الثاني : أن يكون معطوفا على علة أخرى مضمرة ; ليظهر صحة العطف ، كقوله تعالى : وخلق الله السماوات والأرض بالحق ولتجزى ( الجاثية : 22 ) التقدير : ليستدل بها المكلف على قدرته تعالى ولتجزى .

وكقوله : وكذلك مكنا ليوسف في الأرض ولنعلمه ( يوسف : 21 ) التقدير : ليتصرف فيها ولنعلمه .

والفرق بين الوجهين أنه في الأول عطف جملة على جملة ، وفي الثاني عطف مفرد على مفرد .

وقد يحتملهما الكلام ; كقوله تعالى : ولنجعلك آية للناس ( البقرة : 259 ) ، فالتقدير على الأول : " ولنجعله آية فعلنا ذلك " ، وعلى الثاني : " ولنبين للناس قدرتنا ولنجعله آية " ويطرد الوجهان في نظائره ، ويرجح كل واحد بحسب المقام ، وحذف المعلل هاهنا [ ص: 168 ] أرجح ; إذ لو فرض علة أخرى لم يكن بد من معلل محذوف ، وليس قبلها ما يصلح له .

فإن قلت : لم قدر المعلل مؤخرا ؟ قلت : فائدة هذا الأسلوب هو أن يجاء بالعلة بالواو للاهتمام بشأن العلة المذكورة ; لأنه إما أن يقدر علة أخرى ليعطف عليها ، فيكون اختصاص ذكرها لكونها أهم ، وإما أن يكون على تقدير معلل فيجب أن يكون مؤخرا ليشعر تقديمه بالاهتمام .

الثالث : الإتيان بكي ; كقوله تعالى : ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم ( الحشر : 7 ) فعلل سبحانه الفيء بين هذه الأصناف ; كيلا يتداوله الأغنياء دون الفقراء .

وقوله : ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها إن ذلك على الله يسير لكي لا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم ( الحديد : 22 - 23 ) وأخبر سبحانه أنه قدر ما يصيبهم من البلاء في أنفسهم قبل أن تبرأ الأنفس أو المصيبة أو الأرض أو المجموع ، ثم أخبر أن مصدر ذلك قدرته عليه وأنه هين عليه ، وحكمته البالغة التي منها ألا يحزن عباده على ما فاتهم ، ولا يفرحوا بما آتاهم ، فإنهم إذا علموا أن المصيبة فيه مقدرة كائنة ، ولا بد قد كتبت قبل خلقهم هان عليهم الفائت ، فلم يأسوا عليه ولم يفرحوا .

الرابع ذكر المفعول له وهو علة للفعل المعلل به ; كقوله : ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء وهدى ورحمة ( النحل : 89 ) .

ونصب ذلك على المفعول له أحسن من غيره ، كما صرح به في قوله : لتبين للناس ما نزل إليهم ( النحل : 44 ) .

وقوله : ولأتم نعمتي عليكم ولعلكم تهتدون ( البقرة : 150 ) .

وقوله : ولقد يسرنا القرآن للذكر ( القمر : 17 ) أي : لأجل الذكر ; كما قال تعالى : فإنما يسرناه بلسانك لعلهم يتذكرون ( الدخان : 58 ) .

وقوله : فالملقيات ذكرا عذرا أو نذرا ( المرسلات : 5 - 6 ) أي : للإعذار والإنذار .

وقد يكون معلولا بعلة أخرى ; كقوله تعالى : يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق حذر الموت ( البقرة : 19 ) [ ص: 169 ] فـ " من الصواعق " يحتمل أن تكون فيه " من " لابتداء الغاية فتتعلق بمحذوف ، أي : خوفا من الصواعق ، ويجوز أن تكون معللة بمعنى اللام ; كما في قوله تعالى : كلما أرادوا أن يخرجوا منها من غم ( الحج : 22 ) أي : لغم .

وعلى كلا التقديرين فـ " من الصواعق " في محل نصب على أنه مفعول له ، والعامل فيه ( يجعلون ) و ( حذر الموت ) مفعول له أيضا ، فالعامل فيه من الصواعق فـ " من الصواعق " علة لـ " يجعلون " معلول لحذر الموت ; لأن المفعول الأول الذي هو " من الصواعق " يصلح جوابا لقولنا : لم يجعلون أصابعهم في آذانهم ؟ والمفعول الثاني الذي هو " حذر الموت " يصلح جوابا لقولنا : لم يخافون من الصواعق ؟ فقد ظهر ذلك .

الخامس : اللام في المفعول له ، وتقوم مقامه الباء نحو : فبظلم من الذين هادوا ( النساء : 160 ) .

ومن نحو : من أجل ذلك كتبنا ( المائدة : 32 ) .

والكاف ، نحو : كما أرسلنا فيكم رسولا منكم ( البقرة : 151 ) وقال فاذكروني أذكركم ( البقرة : 152 ) وقال فاذكروا الله كما علمكم ( البقرة : 239 ) أي : لإرسالنا وتعليمنا .

السادس : الإتيان بإن ; كقوله تعالى : واستغفروا الله إن الله غفور رحيم ( المزمل : 20 ) ، وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم ( التوبة : 103 ) .

وما أبرئ نفسي إن النفس لأمارة بالسوء ( يوسف : 53 ) .

فقال لأهله امكثوا إني آنست نارا ( طه : 10 ) .

وكقوله : فلا يحزنك قولهم إنا نعلم ما يسرون وما يعلنون ( يس : 76 ) ، وليس هذا من قولهم ; لأنه لو كان قولهم لما حزن الرسول ، وإنما جيء بالجملة لبيان العلة والسبب في أنه لا يحزنه قولهم .

[ ص: 170 ] وكذلك قوله تعالى : ولا يحزنك قولهم إن العزة لله جميعا ( يونس : 65 ) والوقف على القول في هاتين الآيتين والابتداء بـ " إن " لازم .

وقد يكون علة لعلة ; كقوله : إن عذابها كان غراما إنها ساءت مستقرا ومقاما ( الفرقان : 65 - 66 ) .

وفيها وجهان لأهل المعاني : أحدهما أن سؤالهم لصرف العذاب معلل بأنه غرام ، أي : ملازم الغريم ، وبأنها ساءت مستقرا ومقاما .

الثاني : أن " ساءت " تعليل لكونه غراما .

السابع : أن والفعل المستقبل بعدها تعليلا لما قبله ; كقوله تعالى : أن تقولوا إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا ( الأنعام : 156 ) .

وقوله تعالى : أن تقول نفس ياحسرتا على ما فرطت في جنب الله ( الزمر : 56 ) .

وقوله : تولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزنا ألا يجدوا ما ينفقون ( التوبة : 92 ) كأنه قيل : لم فاضت أعينهم من الدمع ؟ قيل : للحزن .

فقيل : لم حزنوا ؟ فقيل : لئلا يجدوا .

وقوله : أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى ( البقرة : 282 ) .

ونظائره كثيرة ، وفي ذلك طريقان : أحدهما : للكوفيين ، أن المعنى لئلا يقولوا ، ولئلا تقول نفس .

الثاني : للبصريين أن المفعول محذوف ; أي : كراهة أن يقولوا ، أو : حذار أن يقولوا ، فإن قيل : كيف يستقيم الطريقان في قوله : أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى ( البقرة : 282 ) فإنك إذا قدرت : " لئلا تضل إحداهما " لم يستقم عطف " فتذكر " عليه ، وإن قدرت : " حذار أن تضل إحداهما " لم يستقم العطف أيضا ; لأنه لا يصح أن تكون الضلالة علة لشهادتهما .

قيل : بظهور المعنى يزول الإشكال ، فإن المقصود إذكار إحداهما الأخرى إذا ضلت [ ص: 171 ] ونسيت ، فلما كان الضلال سببا للإذكار جعل موضع العلة ; كما تقول : " أعددت هذه الخشبة أن تميل الحائط فأدعم بها " فإنما أعددتها للدعم لا للميل ، وأعددت هذا الدواء أن أمرض فأدواى به ونحوه ، هذا قول سيبويه والبصريين .

وقال الكوفيون : تقديره في " تذكر إحداهما الأخرى إن ضلت " ، فلما تقدم الجزاء اتصل بما قبله ، ففتحت " أن " .

الثامن : " من أجل " في قوله تعالى : من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفسا بغير نفس ( المائدة : 32 ) فإنه لتعليل الكتب ، وعلى هذا فيجب الوقف على من النادمين ( المائدة : 31 ) وظن قوم أنه تعليل لقوله : " من النادمين " أي : من أجل قتله لأخيه ، وهو غلط ; لأنه يشوش صحة النظم ويخل بالفائدة .

فإن قلت : كيف يكون قتل أحد ابني آدم للآخر علة للحكم على أمة أخرى بذلك الحكم ؟ وإذا كان علة فكيف كان قتل نفس واحدة بمنزلة قاتل الناس كلهم ؟ قيل : إن الله سبحانه يجعل أقضيته وأقداره عللا لأسبابه الشرعية وأمره ، فجعل حكمه الكوني القدري علة لحكمة أمره الديني ; لأن القتل لما كان من أعلى أنواع الظلم والفساد فخم أمره ، وعظم شأنه ، وجعل إثمه أعظم من إثم غيره ، ونزل قاتل النفس الواحدة منزلة قاتل الأنفس كلها في أصل العذاب لا في وصفه .

التاسع : التعليل بـ " لعل " ، كقوله تعالى : اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون ( البقرة : 21 ) قيل : هو تعليل لقوله : ( اعبدوا ) وقيل : لقوله : ( خلقكم ) .

وقوله : كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون ( البقرة : 183 ) حيث لمح فيها معنى الرجاء رجعت إلى المخاطبين .

[ ص: 172 ] العاشر : ذكر الحكم الكوني أو الشرعي عقب الوصف المناسب له ; فتارة يذكر بأن ، وتارة بالفاء ، وتارة يجرد .

فالأول : كقوله تعالى : وزكريا إذ نادى ربه رب لا تذرني فردا وأنت خير الوارثين الأنبياء : 89 ) إلى قوله : خاشعين ( الأنبياء : 90 ) وقوله : إن المتقين في جنات وعيون آخذين ما آتاهم ربهم إنهم كانوا قبل ذلك محسنين ( الذاريات : 15 - 16 ) .

والثاني : كقوله : والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما ( المائدة : 38 ) الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة ( النور : 277 ) .

والثالث : كقوله : إن المتقين في جنات وعيون ادخلوها بسلام آمنين ( الحجر : 45 - 46 ) إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة لهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون ( البقرة : 277 ) .

الحادي عشر : تعليله سبحانه عدم الحكم بوجود المانع منه ; كقوله تعالى : ولولا أن يكون الناس أمة واحدة لجعلنا لمن يكفر بالرحمن ( الزخرف : 33 ) الآية .

وقوله : ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض ( الشورى : 27 ) وما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذب بها الأولون ( الإسراء : 59 ) أي : آيات الاقتراح ، لا الآيات الدالة على صدق الرسل التي تأتي منه سبحانه ابتداء .

وقوله : ولو جعلناه قرآنا أعجميا لقالوا لولا فصلت آياته ( فصلت : 44 ) .

وقوله : لولا أنزل عليه ملك ولو أنزلنا ملكا لقضي الأمر ( الأنعام : 8 ) فأخبر سبحانه عما يمنع من إنزال الملك عيانا بحيث يشاهدونه ، وإن عنايته وحكمته بخلقه اقتضت منع ذلك ; بأنه لو أنزل عليه الملك ثم عاينوه ولم يؤمنوا به لعوجلوا بالعقوبة ، وجعل الرسول بشرا ليمكنهم التلقي عنه والرجوع إليه ، ولو جعله ملكا فإما أن يدعه على هيئته الملكية أو يجعله على هيئة البشر ، والأول يمنعهم من التلقي عنه ، والثاني لا يحصل مقصوده ، إذا كانوا يقولون هو بشر لا ملك .

[ ص: 173 ] الثاني عشر : إخباره عن الحكم والغايات التي جعلها في خلقه وأمره كقوله : الذي جعل لكم الأرض فراشا والسماء بناء وأنزل من السماء ماء ( البقرة : 22 ) الآية .

وقوله : ألم نجعل الأرض مهادا ( النبأ : 6 ) الآيات .

وقوله : والله جعل لكم من بيوتكم سكنا الآية .

وكما يقصدون البسط والاستيفاء يقصدون الإجمال والإيجاز ، كما قيل :

يرمون بالخطب الطوال وتارة وحي الملاحظ خيفة الرقباء

وقوله : ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا ( الروم : 21 ) .

التالي السابق


الخدمات العلمية