الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وكلام السلف وأهل اللغة يدل على هذا وإن تنوعت عباراتهم .

روى ابن أبي حاتم بإسناده المعروف عن عثمان بن عطاء [ ص: 181 ] الخراساني عن أبيه في قوله : حنيفا مسلما قال : مخلصا مسلما .

قال : وروي عن مقاتل بن حيان مثل ذلك . وقال خصيف :

الحنيف المخلص .

وذكر ذلك الثعلبي وغيره عن مقاتل بن سليمان بإسناده عن أبي قتيبة البصري نعيم بن ثابت عن أبي قلابة قال : الحنيف الذي يؤمن بالرسل كلهم .

وقال محمد بن كعب : الحنيف المستقيم .

وبإسناده المعروف عن سفيان الثوري عن ابن أبي نجيح عن مجاهد : حنيفا قال : متبعا ، وقال : الحنيفية اتباع إبراهيم .

وذكره طائفة من المفسرين عن مجاهد ، وروي نحو ذلك عن الربيع ابن أنس .

قال مجاهد : هو اتباع إبراهيم فيما أتى به من الشريعة التي صار بها إماما للناس .

وقال ابن أبي طلحة عن ابن عباس : حنيفا قال : حاجا .

وقال ابن أبي حاتم : وروي عن الحسن والضحاك وعطية والسدي نحو ذلك .

ونقل طائفة عن الضحاك أنه قال : إذا كان مع الحنيف المسلم فهو الحاج ، وإذا لم يكن معه فهو المسلم . [ ص: 182 ]

وذكر الثعلبي ومن اتبعه كالبغوي وغيره عن ابن عباس قال : الحنيف المائل عن الأديان إلى دين الإسلام . قالوا : وأصله من حنف الرجل ، وهو ميل وعوج في القدم ، ومنه قيل للأحنف بن قيس ذلك ، لأنه كان أحنف القدم .

قلت : والحج داخل في الحنيفية من حين أوجبه الله على لسان محمد ، فلا تتم الحنيفية إلا به ، وهو من ملة إبراهيم ، وما زال مشروعا من عهد إبراهيم ، فحجه الأنبياء موسى ويونس وغيرهما ، وما زال مشروعا من أول الإسلام ، وإنما فرض بالمدينة في آخر الأمر بالاتفاق . والصواب أنه فرض سنة عشر أو تسع ، وقيل : سنة ست ، والأول أصح .

والله أمر محمدا وأمته أن يكونوا حنفاء ، فقال في النحل -وهي مكية- : ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفا ، فكان الحج إذ ذاك داخلا في الحنيفية على سبيل الاستحباب والتمام ، لا على سبيل الوجوب . وأمر الله أهل الكتاب أن يكونوا حنفاء ، ولم يكن الحج مفروضا عليهم ، بل كان مستحبا .

ومثل هذا ما رواه ابن أبي حاتم عن الربيع بن أنس عن أبي العالية قال : الحنيف الذي يستقبل البيت بصلاته ، ويرى حجه عليه واجبا إن استطاع إليه سبيلا . [ ص: 183 ]

فهذا تفسيره للحنيف بعد أن حولت القبلة إلى الكعبة وأمر الناس باستقبالها وبعد أن فرض الحج ، وإلا فقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - ومن اتبعه وهم بمكة حنفاء وهم يصلون إلى بيت المقدس لما كانوا مأمورين بذلك ، وإنما أمروا باستقبالها بالمدينة في السنة الثانية من الهجرة . وكذلك موسى ومن اتبعه والمسيح ومن اتبعه كانوا حنفاء أيضا ، وكانوا يصلون إلى بيت المقدس .

وروى ابن أبي حاتم وغيره من التفسير الثابت عن قتادة تفسير ابن أبي عروبة عنه قال : الحنيفية شهادة أن لا إله إلا الله ، يدخل فيها تحريم الأمهات والبنات والأخوات والعمات والخالات وما حرم الله والختان ، وكانت حنيفية في الشرك ، وكانوا يحرمون في شركهم الأمهات وما تقدم من القرابات ، وكانوا يحجون البيت وينسكون المناسك .

فذكر قتادة أنها التوحيد واتباع ملة إبراهيم بتحريم ما حرم الله والختان ، وأنهم في شركهم كانوا ينتحلون الحنيفية ، فيحرمون ذوات المحارم ويحجون ويختتنون ، وهذا مما تمسكوا به من دين إبراهيم مع شركهم الذي فارقوا به أصل الحنيفية ، لكن كانوا ينتحلونها .

وكان هذا فارقا بينهم وبين المجوس ومن لا يحرم ذوات المحارم ، وبين النصارى ومن لا يرى الختان ، وبين سائر أهل الملل ممن لا يرى حج البيت . فإن الحج كان من الحنيفية ، لكن كان من مستحباتها [ ص: 184 ] لا من واجباتها .

وكذلك قال أبو الحسن الأخفش : الحنيف المسلم ، وقال غيره : إذا ذكر مع الحنيف المسلم فهو الحاج . قال أبو الحسن الأخفش : وكانوا في الجاهلية يقولون لمن اختتن وحج حنيفا ، لأن العرب لم تتمسك بشيء من دين إبراهيم غير الختان والحج ، فلما جاء الإسلام عادت الحنيفية . وقال الأصمعي : من عدل عن دين اليهود والنصارى فهو حنيف عند العرب .

قلت : ولهذا يوجد في كتب بعض أهل الكتاب من النصارى وغيرهم وفي كلامهم معاداة الحنيف ، وهم هؤلاء العرب الذين كانوا يحجون ويختتنون وهم مشركون ، فإن النصارى لا يحجون ولا يختتنون ولا يتعبدون بالختان ، بل أكثرهم ينهى عنه ، وفيهم من يختتن .

التالي السابق


الخدمات العلمية